مدينة القدس
القدس مدينة قديمة قدم التاريخ، ويؤكد مؤرّخون أنّ تحديد زمن بناء القدس
غير معروف ولا يستطيع مؤرّخ تحديده وبداية وجودها مرتبطة بالمسجد الأقصى
الذي بني بعد المسجد الحرام بـ40 عاماً، وتذكر المصادر التاريخية أنها كانت
منذ نشأتها صحراء خالية من أودية وجبال، وقد كانت أولى الهجرات العربية
الكنعانية إلى شمال شبه الجزيرة العربية قبل الميلاد بنحو ثلاثة آلاف عام،
واستقرّت على الضفة الغربية لنهر الأردن، ووصل امتدادها إلى البحر المتوسط،
وسميت الأرض من النهر إلى البحر، بـ"أرض كنعان"، وأنشأ هؤلاء الكنعانيون
مدينة (أورسالم).
وقد اتّخذت القبائل العربيّة الأولى من المدينة مركزاً لهم، " واستوطنوا فيها وارتبطوا بترابها، وهذا ما جعل اسم المدينة "يبوس". وقد صدّوا عنها غارات المصريين، وصدّوا عنها أيضاً قبائل العبرانيين التائهة في صحراء سيناء، كما نجحوا في صدّ الغزاة عنها أزماناً طوالاً.
خضعت مدينة القدس للنفوذ المصري الفرعوني بدءاً من القرن 16 ق.م، وفي عهد الملك أخناتون تعرّضت لغزو "الخابيرو" العبرانيين، ولم يستطع الحاكم المصري عبدي خيبا أن ينتصر عليهم، فظلت المدينة بأيديهم إلى أن عادت مرة أخرى للنفوذ المصري في عهد الملك سيتي الأول 1317 – 1301 ق.م.
استولى الإسكندر الأكبر على فلسطين بما فيها القدس، وبعد وفاته استمر خلفاؤه المقدونيون والبطالمة في حكم المدينة، واستولى عليها في العام نفسه بطليموس وضمّها مع فلسطين إلى مملكته في مصر عام 323 ق.م، ثم في عام 198 ق.م أصبحت تابعة للسلوقيين في سوريا بعد أنْ ضمّها سيلوكس نيكاتور، وتأثر السكان في تلك الفترة بالحضارة الإغريقية.
استولى قائد الجيش الروماني بومبيجي على القدس عام 63 ق.م وضمّها إلى الإمبراطوية الرومانية، بعد ذلك انقسمت الإمبراطورية الرومانية إلى قسمين غربيّ وشرقيّ وكانت فلسطين من القسم الشرقي البيزنطي، وقد شهدت فلسطين بهذا التقسيم فترة استقرار دامت أكثر من مئتيْ عام، الأمر الذي ساعد على نموّ وازدهار البلاد اقتصادياً وتجارياً وكذلك عمرانياً، مما ساعد في ذلك مواسم الحج إلى الأماكن المقدسة.
ولم يدم هذا الاستقرار طويلاً، فقد دخل ملك الفرس "كسرى الثاني" (برويز) سوريا، وامتد زحفه حتى تمّ احتلال القدس وتدمير الكنائس والأماكن المقدسة ولاسيما كنيسة "القبر المقدس". ويُذكَر أنّ من تبقى من اليهود انضموا إلى الفرس في حملتهم هذه رغبةً منهم في الانتقام من المسيحيين، وهكذا فقد البيزنطيون سيطرتهم على البلاد. ولم يدمْ ذلك طويلاً، إذ أعاد الإمبراطور "هرقل" احتلال فلسطين سنة 628 م ولحق بالفرس إلى بلادهم واسترجع الصليب المقدس.
ممّا ذُكِر سابقاً يُستنتج أنّ الوجود اليهوديّ في فلسطين عموماً والقدس خصوصاً لم يكنْ إلا وجوداً طارئاً وفي فترة محدودة جدّاً من تاريخ القدس الطويل.
بدأت مرحلة الفتح الإسلامي للمدينة المقدّسة عندما أسري بالنبي محمد صلى الله عليه وسلّم،حيث تجلّى الرابط الأول والمعنوي بين المسجد الأقصى والمسجد الحرام في معجزة الإسراء والمعراج، ثم أتى الرابط المادّي أيام الخليفة الراشدي الثاني عمر بن الخطاب رضي الله عنه، حيث دخل الخليفة عمر مدينة القدس سنة 636/15هـ (أو 638م على اختلاف في المصادر) بعد أنْ انتصر الجيش الإسلامي بقيادة أبي عبيدة عامر بن الجراح، واشترط البطريرك صفرونيوس أنْ يتسلّم عمر المدينة بنفسه فكتب معهم "العهدة العمرية" وبقي اسم المدينة في ذلك الوقت (إيلياء) حتى تغير إلى (القدس) في زمن العباسيين حيث ظهرت أول عملة عباسية في عهد المأمون تحمل اسم (القدس).
واتخذت المدينة منذ ذلك الحين طابعها الإسلامي، واهتمّ بها الأمويون (661 - 750م) والعباسيون (750 - 878م). وشهدت نهضة علمية في مختلف الميادين. وشهدت المدينة بعد ذلك عدم استقرارٍ بسبب الصراعات العسكرية التي نشبت بين العباسيين والفاطميين والقرامطة، وخضعت القدس لحكم السلاجقة عام 1071م، أما في العهود الطولوني والإخشيدي والفاطمي أصبحت القدس وفلسطين تابعة لمصر.
سقطت القدس في أيدي الفرنجة خمسة قرون من الحكم الإسلامي نتيجة صراعات على السلطة بين السلاجقة والفاطميين وبين السلاجقة أنفسهم.
استطاع صلاح الدين الأيوبي استرداد القدس من الفرنجة عام 1187م بعد معركة حطين، وعامل أهلها معاملة طيبة، وأزال الصليب عن قبة الصخرة، واهتم بعمارة المدينة وتحصينها، ثم اتجه صلاح الدين لتقديم أعظم هدية للمسجد، وكانت تلك الهدية هي المنبر الذي كان "نور الدين محمود بن زنكي" قد أعده في حلب، وكان هذا المنبر آيةً في الفن والروعة، ويعدّه الباحثون تحفة أثرية رائعة.
ولكن الفرنجة نجحوا في السيطرة على المدينة بعد وفاة صلاح الدين في عهد الملك فريدريك ملك صقلية، وظلّت بأيدي الفرنجة 11 عاماً إلى أنْ استردّها نهائياً الملك الصالح نجم الدين أيوب عام 1244م.
وتعرّضت المدينة للغزو المغولي عام 1243/1244م، لكن المماليك هزموهم بقيادة سيف الدين قطز والظاهر بيبرس في معركة عين جالوت عام 1259م، وضمّت فلسطين بما فيها القدس إلى المماليك الذين حكموا مصر والشام بعد الدولة الأيوبية حتى عام 1517م.
دخل العثمانيون القدس بتاريخ 28 ديسمبر 1516م (الرابع من ذي الحجة 922هـ)، وبعد هذا التاريخ بيومين قام السلطان بزيارةٍ خاصة للمدينة المقدسة حيث خرج العلماء والشيوخ لملاقاة السلطان العثماني "سليم الأول" وسلّموه مفاتيح المسجد الأقصى المبارك والمدينة. وأصبحت القدس مدينة تابعة للإمبراطورية العثمانية وظلت في أيديهم أربعة قرون تقريبًا وحفظوها بسور القدس الذي نعرفه اليوم والذي بني في عهد السلطان سليمان القانوني وبغيره من الأعمال المختلفة الأخرى.
سقطت القدس بيد الجيش البريطاني في 8-9/12/1917م بعد البيان الذي أذاعه الجنرال البريطاني اللنبي، ومنحت عصبة الأمم بريطانيا حق الانتداب على فلسطين، وأصبحت القدس عاصمة فلسطين تحت الانتداب البريطاني (1920-1948).
أعلنت بريطانيا اعتزامها الانسحاب من فلسطين يوم 14 أيار/مايو 1948، وبحلول هذا التاريخ أعلن من يُسمّى بمُخلّص الدولة المؤقت"الإسرائيلي" عن قيام "دولة إسرائيل" الأمر الذي أعقبه دخول وحدات من الجيوش العربية للقتال إلى جانب سكان فلسطين، حيث أسفرت الحرب عن وقوع غربي مدينة القدس بالإضافة إلى مناطق أخرى تقارب أربعة أخماس فلسطين تحت سيطرة الاحتلال الصهيوني.
مع اندلاع حرب حزيران 1967 أتيحت الفرصة الملائمة لدولة الاحتلال لاحتلال بقية المدينة، ففي صبيحة السابع من حزيران/يونيو 1967 بادر مناحيم بيغين لاقتحام المدينة القديمة، حيث تم الاستيلاء عليها بعد ظهر اليوم نفسه وعلى الفور أقيمت إدارة عسكرية للضفة الغربية وقام جيش الاحتلال بتنظيم وحدات الحكم العسكري لإدارة المناطق التي تحتلها دولة الاحتلال في حالة نشوب حرب.
شكّلت مدينة القدس عنوان المقاومة الفلسطينيّة هذه الأيّام، خصوصاً مع مشاريع التسوية التي أعقبت اتفاقات أوسلو عام 1994م. وكانت زيارة نائب رئيس وزراء الاحتلال الصهيونيّ السابق آرئييل شارون وانطلاقة انتفاضة الأقصى إثر ذلك إثباتاً على عنوان المرحلة المقبلة للمقاومة الفلسطينيّة. وفي المقابل تبذل السلطات اليهودية أقصى الجهد لطمس المعالم الإسلامية بالقدس رغبةً في تهويدها، فهي تعزلها عن باقي المناطق المحتلة، وتمنع الفلسطينيين من دخولها، وتدفع لها بعض اليهود، وتقيم بها أبنية على نسقٍ مغاير للملامح العربية والإسلامية، وتُحدِث بالمدينة بعض الأعمال التي من شأنها تغيير مكانة القدس سياسيّاً وديموجرافيّاً، كزرع المستوطنات والتضييق على سكان المدينة من العرب حتى يلجؤوا للهجرة. وستظل المعارك دائرة بين المسلمين واليهود إلى أنْ يتم تحرير الأقصى.
وإذا كانت ذاكرة الأمة قد ظلت داعية بمكانة القدس في هذا الصراع التاريخي المتعدد المراحل والحلقات.. فإن مهمة ثقافتنا المعاصرة هي الإبقاء على ذاكرة الأمة على وعيها الكامل بمكانة القدس حتى يطلع الفجر الجديد.
جغرافيا القدس
تقع مدينة القدس في وسط فلسطين تقريباً، إلى الشرق من البحر المتوسط على سلسلة جبالٍ ذات سفوحٍ تميل إلى الغرب وإلى الشرق. وترتفع عن سطح البحر المتوسط نحو 750م، وعن سطح البحر الميت نحو 1150 م، وتقع على خط طول 35 درجة و13 دقيقة شرقاً، وخط عرض 31 درجة و52 دقيقة شمالاً. تبعد المدينة مسافة 52 كيلومتراً عن البحر المتوسط في خط مستقيم و22 كم عن البحر الميت و250 كم عن البحر الأحمر، وتبعد عن عمّان 88 كيلومتراً، وعن بيروت 388 كيلومتراً، وعن دمشق 290 كيلومتراً.
تميزت مدينة القدس بموقع جغرافي هام، بسبب موقعها على الهضاب وفوق القمم الجبلية التي تمثل السلسلة الوسطى للأراضي الفلسطينية، والتي بدورها تمثّل خط تقسيم للمياه بين وادي الأردن شرقاً والبحر المتوسط غرباً، جعلت من اليسير عليها أنْ تتصل بجميع الجهات، وهي حلقة في سلسلةٍ تمتدّ من الشمال إلى الجنوب فوق القمم الجبلية للمرتفعات الفلسطينية وترتبط بطرق رئيسية تخترق المرتفعات من أقصى الشمال إلى أقصى الجنوب. كما أنّ هناك طرقاً عرضية تقطع هذه الطرق الرئيسية لتربط وادي الأردن بالساحل الفلسطيني.
وقد كانت أرض مدينة القدس في قديم الزمان صحراء تحيط بها من جهاتها الثلاثة الشرقية والجنوبية الغربية الأودية، أمّا جهاتها الشمالية والشمالية الغربية فكانت مكشوفة وتحيط بها كذلك الجبال التي أقيمت عليها المدينة، وهي جبل موريا (ومعناه المختار) القائم عليه المسجد الأقصى المبارك، ويرتفع نحو 770 متراً، وأعلى نقطة فيه الصخرة التي تقع فوقها قبة الصخرة المشرفة التي تشكل نقطة قلب المسجد الأقصى المبارك، وجبل "أكر" حيث توجد كنيسة "القيامة" وجبل "نبريتا" بالقرب من باب الساهرة، وجبل "صهيون" الذي يُعرَف بجبل داوود في الجنوب الغربي من القدس القديمة. وقد قُدِّرت مساحة المدينة بـحوالي كيلومتر مربع واحد، ويحيط بها سور منيع على شكل مربع يبلغ ارتفاعه 40 قدماً وعليه 34 برجاً متنظماً، ولهذا السور سبعة أبواب هي: باب الخليل، الباب الجديد، باب العامود، باب الساهرة، باب المغاربة، باب الأسباط، باب النبي داود.
نشأة النواة الأولى لمدينة القدس كانت على (تل أوفيل) المطل على قرية سلوان التي كانت تمتلك عين ماء ساعدتها في توفير المياه للسكان، وانتقلت فيما بعد إلى المناطق الأخرى التي تقع فوقها بلدة القدس المسورة اليوم، وأحيطت هذه المنطقة بالأسوار التي ظلّت على حالها حتى بنى السلطــان العثماني (سليمان القانوني) سنة1542 م السور الذي لا يزال قائماً، محدّداً لحدود القدس القديمة جغرافياً، بعد أنْ كان سورها يمتد شمالاً حتى وصل في مرحلة من المراحل إلى منطقة المسجد المعروف (مسجد سعد وسعيد)، وجنوباً حتى نهاية قرية سلوان.
وفي أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، لم تعدْ مساحتها تستوعب الزيادة السكانية، فبدأ الامتداد العمراني خارج السور، وفي جميع الجهات ظهرت الأحياء الجديدة التي عرفت فيما بعد بالقدس الجديدة، إضافةً إلى الضواحي المرتبطة بالمدينة التي كانت، وما زالت قرى تابعة لها، وقد اتخذ الامتداد العمراني اتجاهين أحدهما شمالي غربي والآخر جنوبيّ.
ونتيجةً لنشوء الضواحي الاستيطانية اليهوديّة في المنطقة العربية خصوصاً خلال فترة الاحتلال البريطاني، فقد جرى العمل على رسم الحدود البلدية بطريقةٍ ترتبط بالوجود اليهوديّ، إذ امتدّ الخط من الجهة الغربية عدة كيلومترات، بينما اقتصر الامتداد من الجهتين الجنوبية والشرقية على بضع مئات من الأمتار، فتوقف خط الحدود أمام مداخل القرى العربية المجاورة للمدينة، ومنها قرى عربية كبيرة خارج حدود البلدية (الطور، شعفاط، دير ياسين، لفتا، سلوان، العيسوية، عين كارم المالحة، بيت صفافا) مع أنّ هذه القرى تتاخم المدينة حتى تكاد تكون من ضواحيها، ثم جرى ترسيم الحدود البلدية في عام 1921 .
وفي عام 1921م تمّ ترسيم الحدود بحيث ضمت حدود البلدية القديمة قطاعاً عرضياً بعرض 400م على طول الجانب الشرقي لسور المدينة، بالإضافة إلى أحياء (باب الساهرة، ووادي الجوز والشيخ جراح) من الناحية الشمالية، ومن الناحية الجنوبية انتهى خط الحدود إلى سور المدينة فقط، أما الناحية الغربية والتي تعادل مساحتها أضعاف القسم الشرقي، فقد شملتها الحدود لاحتوائها تجمّعات يهودية كبيرة، بالإضافة إلى بعض التجمـعات العربيـــة (القطمون، البقعة الفوقا والتحتا، الطالبية، الوعرية، الشيخ بدر، مأمن الله).
وفي الفترة بين عاميْ 1946 و1948 كان المخطط الثاني لحدود البلدية. فقد وُضِع عام 1946، وجرى بموجبه توسيع القسم الغربي عام 1931، وفي الجزء الشرقي أضيفت قرية سلوان من الناحية الجنوبية ووادي الجوز، وبلغت مساحة المخطط 20,199 دونماً.
وتوسعت المساحة المبنية من 4130 دونماً عام 1918 إلى 7230 دونماً عام 1948، وبين عامي (1947-1949) جاءت فكرة التقسيم والتدويل، لأنّ فكرة تقسيم فلسطين وتدويل القدس لم تكنْ جديدة فقد طرحتها اللجنة الملكية بخصوص فلسطين (لجنة بيل)، حيث اقترحت اللجنة إبقاء القدس وبيت لحم إضافة إلى اللد والرملة ويافا خارج حدود الدولتين (العربية واليهودية) مع وجود معابر حرة وآمنة، وجاء قرار التقسيم ليوصي مرة أخرى بتدويل القدس. وقد نص القرار على أنْ تكون القدس (منطقة منفصلة) تقع بين الدولتين (العربية واليهودية) وتخضع لنظامٍ دوليّ خاص، وتُدار من قبل الأمم المتحدة بواسطة مجلس وصاية يقام لهذا الخصوص، وحدّد القرار حدود القدس الخاضعة للتدويل بحيث شملت (عين كارم وموتا في الغرب وشعفاط في الشمال، وأبو ديس في الشرق، وبيت لحم في الجنوب)، لكن حرب عام 1948 وتصاعد المعارك الحربية التي أعقبت التقسيم أدّت إلى تقسيم المدينة، وبتاريخ 13/7/1951م جرت أول انتخابات لبلدية القدس العربية، وقد أولت البلدية اهتماماً خاصاً بتعيين وتوسيع حدودها البلدية، وذلك لاستيعاب الزيادة السكانية واستفحال الضائقة السكانية وصودق على أول مخطط يبين حدود بلدية القدس (الشرقي ) بتاريخ1/4/1952، وقد ضمت المناطق التالية إلى مناطق نفوذ البلدية (قرية سلوان، ورأس العامود، والصوانة وأرض السمار والجزء الجنوبي من قرية شعفاط)، وأصبحت المساحة الواقعة تحت نفوذ البلدية 4,5كم2 في حين لم تزدْ مساحة الجزء المبني منها عن 3 كيلومترات.
وفي 12/2/1957 قرّر مجلس البلدية توسيع حدود البلدية، نتيجة للقيود التي وضعها (كاندل) في منع البناء في سفوح جبل الزيتون، والسفوح الغربية والجنوبية لجبل المشارف (ماونت سكويس) بالإضافة إلى وجود مساحات كبيرة تعود للأديرة والكنائس، ووجود مشاكل أخرى مثل كون أغلبية الأرض مشاعاً ولم تجرِ عليها التسوية (الشيخ جراح وشعفاط )، وهكذا وفي جلسة لبلدية القدس بتاريخ 22/6/1958 ناقش المجلس مشروع توسيع حدود البلدية شمالاً حيث تشمل منطقةً بعرض 500 مترٍ من كلا جانبي الشارع الرئيسي المؤدي إلى رام الله ويمتدّ شمالاً حتى مطار قلنديا، واستمرت مناقشة موضوع توسيع حدود البلدية بما في ذلك وضع مخطط هيكلٍ رئيسيّ للبلدية حتى عام 1959 دون نتيجة.
وفي عام 1964، وبعد انتخابات عام 1963، كانت هناك توصية بتوسيع حدود بلدية القدس لتصبح مساحتها 75 كم2. ولكن نشوب حرب عام 1967 أوقف المشروع، وبقيت حدودها كما كانت عليه في الخمسينات. أما غربي القدس فقد توسعت باتجاه الغرب والجنوب الغربي وضمت إليها أحياء استيطانيّة جديدة منها (كريات يوفيل، وكريات مناحيم، وعير نحانيم، وقرى عين كارم، وبيت صفافا، ودير ياسين، ولفتا، والمالحة) لتبلغ مساحتها 38 كم2.
بعد اندلاع حرب 1967 قامت دولة الاحتلال باحتلال شرقيْ القدس، وبتاريخ 28/6/1967 تمّ الإعلان عن توسيع حدود بلدية القدس وتوحيدها، وطبقاً للسياسة الصهيونيّة الهادفة إلى السيطرة على أكبر مساحة ممكنة من الأرض مع أقل عددٍ ممكن من السكان العرب.
لقد تم رسم حدود البلدية لتضمّ أراضى 28 قرية ومدينة عربية، وإخراج جميع التجمعات السكانية العربية، لتأخذ هذه الحدود وضعاً غريـباً، فمرةً مع خطوط التسوية (الطبوغرافي ) ومرة أخرى مع الشوارع، وهكذا بدأت حقبة أخرى من رسم حدود البلدية، لتتسع مساحة بلدية القدس من 6.5كم2 إلى 70.5 كم2 وتصبح مساحتها مجتمعة (القسم الشرقي والغربي 108.5 كم2)، وفي عام 1995 توسّعت مساحة القدس مرّةً أخرى باتجاه الغرب لتصبح مساحتها الآن 123كم2.
التعريف بالمقدّسات
يتفق علماء التاريخ البشري أنّه لم تحظَ مدينة قط بما حظيت به القدس من أهمية لدى شعوب الأرض قاطبة، فهي مهبط الوحي، وموطن إبراهيم خليل الرحمن، ومقر الأنبياء، ومبعث عيسى كلمة الله التي ألقاها إلى مريم, وهي أولى القبلتين، وثالث المساجد التي تشد إليها الرحال، استقبلها المسلمون في صلاتهم, وخصّها الله بإسراء رسوله وحبيبه المصطفى وحتى اليهود يزعمون بأنها تضم "معبدهم المقدس".
القدس في الديانة اليهودية
تضمّ القدس أكثر من خمسة عشر كنيساً ومعبداً جميعها إمّا أبنية مستأجرة، أو أبنية أنشئت خلال القرنين التاسع عشر والعشرين، ولكن أهمّ المقدسات اليهودية والتي يدّعي اليهود وجودها هو معبد سليمان المزعوم والذي له مكانة خاصة في العقل اليهودي فهو يقع في مركز العالم، فقد بُني في وسط القدس التي تقع في وسط العالم، وقدس الأقداس يقع في وسط المعبد، فهو بمثابة المركز، وأمام (قدس الأقداس) حجر الأساس (النقطة التي عندها خلق الإله العالم)، وهو يمثل الكنز لديهم، فالإله في تصورهم خلق العالم بيد واحدة بينما خلق المعبد بكلتا يديه، بل إنه خلق المعبد قبل العالم، وهم بهذا يرونه أهمّ ما في اليهودية. ومن الملاحظ أنّ اليهود يخضعون المعبد لكثير من الرموز المعاني الكونية العظيمة، فجاء معمار المعبد وتصميمه خاضعاً هو الآخر لتلك التفسيرات.. وقد شيده الملك سليمان (كما يزعمون) وأنفق ببذخ عظيم على بنائه وزخرفته.. حتى لقد احتاج في ذلك إلى أكثر من 180 ألف عامل. وقد أتى له بالذهب من ترشيش، وبالخشب من لبنان، وبالأحجار الكريمة من اليمن، ثم بعد سبع سنوات من العمل المتواصل تكامل بناء المعبد (سفر الملوك الأول, الثاني).
ما يدَّعى من أماكن مقدَّسة لليهود في فلسطين
حائط المبكى ( الا انه وقف اسلامي)
عدة كنس في الحي اليهودي داخل المدينة القديمة
الهيكل المزعوم ولم يومجد أي أثر له
القدس في الديانة المسيحية
تضم القدس أكثر من 47 أثراً من الكنائس والآثار المسيحية منها كنيسة القيامة (وفيها عدة كنائس) ودير أبينا إبراهيم والدير الكبير.
والقدس في الديانة المسيحية تحظى بمكانة خاصة، كيف لا وفيها -حسب معتقدهم- موقع صلب يسوع المسيح ودفنه وفيها طريق الآلام، كما أشير إلى مغارة في القدس على أنّها موضع الجحيم الذي نزل إليه يسوع بعد موته ليحرر الأنفس البشرية.
وتحتضن القدس دير مار إبراهيم للروم الأرثوذكس، وقد سمّي بهذا الاسم تيمناً بالتقليد المسيحي الذي يقول إنّ أبانا إبراهيم جاء إلى هذه الصخرة يقدّم ابنه إسحاق ذبيحة. ويوجد في الكنيسة مذبح وشجرة زيتون علق الجدي بفروعها. وتوجد بئر عظيمة تحت الدير، كما توجد إلى اليمين كنيسة مار يعقوب للأرمن وكنيسة القديس ميخائيل للأقباط. وإلى يسارها ثلاث كنائس مكرسة للقديس يعقوب والقديس يوحنا والشهداء الأربعين, والدرج الذي إلى اليمين قبل الدخول إلى الكنيسة يؤدي إلى معبد "سيدة الأوجاع" ويقال له أيضاً كنيسة الإفرنج، وهي للآباء الفرنسيسكان الذين يحتفلون فيها بالقداس الإلهي كلّ يوم، وتحت هذه الكنيسة تقوم كنيسة أخرى مكرّسة للقديسة مريم المصرية.
أما الجلجلة فتبدأ عند الدخول إلى كنيسة القيامة حيث نجد في اليمين سلماً يوصل إلى الجلجلة على ارتفاع خمسة أمتار عن أرض الكنيسة. وتنقسم إلى كنيستين صغيرتين. الأولى وتدعى كنيسة الصلب، تمّت فيها حسب معتقداتهم المرحلتين الحادية عشرة وهي (تثبيت يسوع بالمسامير على الصليب) والثانية عشرة (صلب يسوع). فوق الهيكل الذي في صدر الكنيسة، ويوجد كذلك حجر الطيب ملاصق لكنيسة الجلجلة يقابله حجر من الجير الأحمر مزين بالشمعدانات والمصابيح. هذا الحجر مقام لذكرى ما ورد في إنجيل يوحنا بعد موت المسيح.
وتضم القدس في جنباتها قبر الخلاص الذي يقوم في منتصف بناء تزينه الشمعدانات الضخمة. "وكان في الموضع الذي صلب فيه بستان، وفي البستان قبر جديد لم يكن قد وضع فيه أحد. وكان القبر قريباً فوضعوا فيه يسوع بسبب تهيئة السبت عند اليهود" حسب المعتقد المسيحي.
ينقسم البناء من الداخل إلى غرفتين، الغرفة الخارجية عبارة عن دهليز لإعداد الميت ويقال لها كنيسة الملاك. أما المدخل الصغير المغطّى بالرخام فهو الباب الحقيقي للقبر الأصلي والذي تمّ إغلاقه بحجرٍ إثر موت المسيح كما يقول الإنجيل. وفي وسط الدهليز نجد عموداً قصيراً يحمي تحت الزجاج قطعة أصلية من الحجر المستدير الذي سدّ باب القبر. ويوصل إلى القبر باب ضيق. فنجد إلى اليمين مقعداً من الرخام يغطي الصخرة الأصلية التي وضع عليها جسد يسوع من مساء الجمعة وحتّى صباح الفصح كما يعتقد المسيحيون.
وتحتضن المدينة المقدسة خورس الروم الأرثوذكس ويقع مقابل القبر المقدس ويحتل الجزء المركزي من البازيليك كلها. وكان في الماضي خورس الآباء القانونيين أيّام الصليبيين. وكذلك كنيسة الأقباط -تقع خلف القبر المقدس في مؤخرته حيث حفر فيه هيكل-، وتوجد كنيسة السريان الأرثوذكس- في آخر الرواق مقابل هيكل الأقباط- هنالك ممر ضيق بين العمودين يؤدي إلى قبر محفور في الصخر يعود إلى أيّام المسيح.
بعد هذا الاستعراض لأهمّ الأماكن المسيحية ذات الأهمية الدينية يتضح لنا أسباب تميز القدس بهذه المكانة المرموقة عند المسيحيين، فهي المكان الذي يحجّون إليه، وتهفو قلوبهم لزيارته والتبرك به. وقد كان للقدس مكانة عظيمة في نفوس المؤمنين من المسيحيين منذ عيسى -عليه الصلاة والسلام- ومن جاء بعده من حملة هموم دعوته.
أماكن مقدَّسة للنصارى في القدس
كنيسة القيامة
طريق الآلام التي تشتمل على المحطات التي تنقل عبرها الصليب
العلية المكان الذي تناول فيه المسيح ورفقاؤه العشاء الأخير
حديقة الجثمانية حيث قبض على المسيح
قبر العذراء المباركة
جبل الزيتون
حديقة القبر يعتبرها كثير من المسيحيين البروتستانت مكان قبر المسيح
العيزرية
بيت لحم وتوجد فيها كنيسة المهد ومغارة الحليب وحقل الرعاة
عين كارم مسقط رأس يوحنا المعمدان
عدة كنائس اثنان وثلاثون كنيسة لمختلف الطوائف
القدس في الإسلام:
تحتضن القدس أكثر من 197 أثراً إسلامياً, تتقسم بين المساجد والقباب والقصور والتكايا والزوايا والمدارس والأسبلة والأبواب... إلخ, وتعود إلى مختلف العصور الإسلامية.
قال: "أتيت بالبراق وهو دابة أبيض طويل فوق الحمار ودون البغل يجعل حافره عند منتهى طرفه"،ويُعَدّ من أهم الآثار الإسلامية في القدس المسجد الأقصى والذي هو أولى القبلتين وأحد المساجد الثلاثة الذي تشدُّ إليها رحال المسلمين. حيث ذكره الله -عز وجل- في القرآن الكريم، يقول تعالى: (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ). وفي الجدار الغربي للمسجد الأقصى يوجد مكان حائط البراق حيث ترجّل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حين وصل المسجد الأقصى. وفي هذا المكان المقدس موضع الحلقة التي ربط بها البراق الشريف. وقد روى مسلم في صحيحه عن أنس بن مالك أن رسول الله قال: "فركبته حتى أتيت بيت المقدس فربطته بالحلقة التي يربط بها الأنبياء -أي عند باب المسجد- ثم دخلت المسجد فصليت فيه ركعتين ثم خرجت فجاءني جبريل بإناء من خمر وإناء من لبن فاخترت اللبن فقال جبريل اخترت الفطرة".
ومن الآثار التاريخية المهمّة قبور الأنبياء والمرسلين وأضرحتهم. ففي بيت المقدس وما حوله توجد أضرحة ومقامات ومساجد تذكارية للكثير من الأنبياء والرسل الكرام. فعلى مقربة من الأقصى بمدينة القدس مسجد النبي داود عليه الصلاة والسلام، وهو مسجد كبير كانت تقام فيه الصلوات الخمس قبل وقوعه في يد المحتلين اليهود وسيطرتهم عليه. وشرقي القدس يوجد مقام النبيّ موسى عليه السلام، وعليه مسجد كبير، وحواليه أبنية وآثار إسلامية من بناء الملك الظاهر بيبرس ومن جاء بعده من ملوك المسلمين وسلاطينهم رحمهم الله.
وفي مقبرة "باب الرحمة" في بيت المقدس توجد قبور جماعةٍ من الصحابة الذين سكنوا القدس وماتوا فيها، ويُعرَف إلى هذا الزمان من قبورهم -رضي الله عنهم-: قبر "شداد بن أوس" الصحابي عالم بيت المقدس، وقبر"عبادة بن الصامت" أحد نقباء الأنصار وأول قاض مسلم في فلسطين، وهما بجانب السور الشرقي للمسجد الأقصى. وبالإضافة إلى القبور والأضرحة والمساجد فهناك المئات من الزوايا الصوفية والتكايا، فهناك: الخانقاه الصلاحية التي أنشأها صلاح الدين الأيوبي في القدس والخانقاه الداودارية والخانقاه الفخرية، وزاوية الشيخ بدر الدين الحسيني بظاهر القدس، وفي القدس وحدها أكثر من خمس عشرة زاوية مثل الزاوية الختنية والزاوية الجراحية والزاوية الكبكية، وتضمّ القدس أكثر من ثلاثين مدرسة من المدارس التاريخية الأثرية الإسلامية التي أنشأها ملوك المسلمين وسلاطينهم في مختلف العصور، وتخرّج منها طائفة من العلماء والصالحين مثل: المدرسة المأمونيّة، والمدرسة التنكزية، والمدرسة العمرية، والمدرسة الأشرفية, والمدرسة الطشتمرية. وفي القدس توجد مكتبات إسلامية تحتوي على نفائس الكتب الدينية واللغوية والتاريخية منها طائفة من المخطوطات الأثرية في علوم التفسير والحديث والفقه. إنَّ هذه الآثار يتبعها وقفٌ خُصِّصَ للكثير منها، وقفه المحسنون الصالحون من المسلمين. وقد وقفوا لها مئات العقارات، والأراضي الزراعية، مشترطين أنْ يصرف ريعها وناتج محصولاتها وأجرة عقاراتها في عمارة تلك المساجد والمعابد والمدارس والأربطة وفي مصالحها حسب شروط الواقفين. وتحتوي سجلات المحاكم الشرعية وبخاصة سجلات محاكم القدس وثائق تلك الوقفيات والقسم الأكبر من هذه أصبح تحت سيطرة اليهود وعبثهم. فتعطّل صرف ريعها في الوجه الشرعي الذي وُقِفَتْ عليه.
قائـمة بالمواقع الإسلامية الأثرية في القدس
المسجد الأقصى المبارك مسجد سويقة علون مسجد الشوربجي
مسجد عمر بن الخطاب مسجد عثمان بن عفان سرايا الست طنشق المظفرية
الخانقاة الصلاحية - مسجد أبي بكر الصديق تكية خاصكي سلطان
مسجد ولي الله محارب زاوية أحمد المثبت المدرسة البكرية
مسجد خان السلطان مسجد الحيات المدرسة الطازية
مسجد العمري الكبير مسجد قلاوون مكتبة الخالدي
مسجد العمري الصغير مسجد القميري (القميرية) مقام الست تركان خاتون
مسجد الديسي مقام السيوفي مقام بيرام جاويش
مسجد اليعقوبي مسجد علاء الدين البصيري مقام رابعة العدوية
مسجد الحريري مسجد المئذنة الحمراء مسجد سعد وسعيد
مسجد القلعة مسجد المولوية مقبرة باب الرحمة
مقام غياين مسجد مصعب بن عمير مقبرة مأمن الله (ماملا)
الزاوية الجراحية زاوية الهنود المقبرة اليوسفية
مسجد المنصوري (القلندري) الزاوية الكبكية مقبرة الساهرة
مسجد النبي داود الزاوية المهمازية المدرسة الطشتمرية
وقف ولي الله أبي مدين مسجد ومقام الشيخ مكي المدرسة التشتمرية
الزاوية الوفائية مسجد الشيخ لؤلؤ المدرسة العثمانية
الزاوية الظاهرية الزاوية النقشبندية طريق خان الزيت
الزاوية الأدهمية مسجد الشيخ ريحان سوق القطانين
الخانقاة الداودرية الزاوية الأفغانية سوق العطارين
الزاوية الختنية مسجد درغث سوق الدباغة
مسجد القرمي
إنّ القدس هي مدينة الديانات السماوية الثلاث وظلّت تتعامل مع الجميع على أساس قاعدة الاعتراف بالآخر، ومبدأ العيش المشترك، وهي الإطار الناظم للاجتماع البشري في القدس، حتى طرق باب فلسطين المشروع الصهيوني الذي اتّخذ موقفاً إقصائياً، لصالح تهويد القدس ليكرّر بذلك التجربة الصليبية، سيئة الذكر والمصير.
الحدود الجغرافية للمدينة عبر التاريخ
الموقع الفلكي:
تقع مدينة القدس على خط طول 35 درجة و13 دقيقة شرقاً، وخط عرض 31 درجة و 52 دقيقة شمالاً.
الموقع الجغرافي:
تميزت مدينة القدس بموقع جغرافي هام، بسبب موقعها على هضبة القدس وفوق القمم الجبلية التي تمثل السلسلة الوسطى للأراضي الفلسطينية، والتي بدورها تمثل خط تقسيم للمياه بين وادي الأردن شرقاً والبحر المتوسط غرباً، جعلت من اليسير عليها أنْ تتصل بجميع الجهات وهي حلقة في سلسلةٍ تمتدّ من الشمال إلى الجنوب فوق القمم الجبلية للمرتفعات الفلسطينية وترتبط بطرق رئيسية تخترق المرتفعات من أقصى الشمال إلى أقصى الجنوب، كما أنّ هناك طرقاً عرضية تقطع هذه الطرق الرئيسية لتربط وادي الأردن بالساحل الفلسطيني.
ويحيط بالمدينة من الجهة الشرقية وادي جهنم (قدرون)، ومن الجهة الجنوبية وادي الربانة (هنوم) ومن الجهة الغربية وادي (الزبل), وتبتعد القدس مسافة 22 كم عن البحر الميت وعن البحر المتوسط 52 كم، كما ترتبط بعواصم الدول المحيطة بطرق معبدة عن طريق البر، أما جواً, فتتصل بدول العالم عن طريق مطار قلنديا.
أهمية الموقع
ترجع أهمية الموقع الجغرافي إلى كونه نقطة مرور لكثير من الطرق التجارية، و مركزيته بالنسبة لفلسطين والعالم الخارجي معاً، حيث يجمع بين الانغلاق وما يعطيه من حماية طبيعية للمدينة، والانفتاح وما يعطيه من إمكان الاتصال بالمناطق والأقطار المجاورة الأمر الذي كان يقود إلى احتلال سائر فلسطين والمناطق المجاورة في حال سقوط القدس، إضافةً إلى تشكيله مركزاً إشعاعياً روحانياً باجتماع الديانات الثلاث، وهذا كلّه يؤكد الأهمية الدينية والعسكرية والتجارية والسياسية أيضاً،لأنها بموقعها المركزي الذي يسيطر على كثير من الطرق التجارية، ولأنها كذلك محكومة بالاتصال بالمناطق المجاورة.
النشأة الأولى
نشأة النواة الأولى لمدينة القدس كانت على (تل أوفيل) المطلّ على قرية سلوان التي كانت تمتلك عين ماء ساعدتها في توفير المياه للسكان، إلا أنها هُجِرت وانتقلت إلى مكانٍ آخر هو (جبل بزيتا) ومرتفع موريا الذي تقع عليه قبة الصخرة. وأحيطت هذه المنطقة بالأسوار التي ظلّتْ على حالها حتى بنى السلطان العثماني (سليمان القانوني) سنة1542م, السور الذي لا يزال قائماً، محدّداً لحدود القدس القديمة جغرافياً، بعد أنْ كان سورها يمتد شمالاً حتى وصل في مرحلة من المراحل إلى منطقة المسجد المعروف (مسجد سعد وسعيد).
وفي أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، لم تعُدْ مساحتها تستوعب الزيادة السكانية، فبدأ الامتداد العمراني خارج السور، وفي جميع الجهات ظهرت الأحياء الجديدة التي عُرِفت فيما بعد بالقدس الجديدة، إضافة إلى الضواحي المرتبطة بالمدينة التي كانت، وما زالت قرى تابعة لها، وقد اتخذ الامتداد العمراني اتجاهين أحدهما شمالي غربي, والآخر جنوبي.
ونتيجة لنشوء الضواحي الاستيطانية في المنطقة العربية، فقد جرى العمل على رسم الحدود البلدية بطريقة ترتبط بالوجود اليهودي، إذ امتدّ الخط من الجهة الغربية عدة كيلومترات، بينما اقتصر الامتداد من الجهتين الجنوبية والشرقية على بضع مئات من الأمتار، فتوقّف خط الحدود أمام مداخل القرى العربية المجاورة للمدينة، ومنها قرى عربية كبيرة خارج حدود البلدية (الطور، شعفاط، دير ياسين، لفتا، سلوان، العيسوية، عين كارم المالحة، بيت صفافا) مع أن هذه القرى تتاخم المدينة حتى تكاد تكون ضواحي من ضواحيها ثم جرى ترسيم الحدود البلدية في عام 1921.
ترسيم الحدود عام 1921:
حيث ضمت حدود البلدية القديمة قطاعاً عرضياً بعرض 400م على طول الجانب الشرقي لسور المدينة، بالإضافة إلى أحياء (باب الساهرة، ووادي الجوز والشيخ جراح) من الناحية الشمالية، ومن الناحية الجنوبية انتهى خط الحدود إلى سور المدينة فقط، أما الناحية الغربية والتي تعادل مساحتها أضعاف القسم الشرقي، فقد شملتها الحدود لاحتوائها تجمعات يهودية كبيرة، بالإضافة إلى بعض التجمـعات العربيـــة (القطمون، البقعة الفوقا والتحتا، الطالبية، الوعرية، الشيخ بدر، مأمن الله).
حدود عام 1946-1948:
أما المخطط الثاني لحدود البلدية فقد وضع عام 1946، وجرى بموجبه توسيع القسم الغربي عام 1931، وفي الجزء الشرقي أضيفت قرية سلوان من الناحية الجنوبية ووادي الجوز، وبلغت مساحة المخطط 20,199 دونماً، كان توزيعها على النحو التالي:
- أملاك عربية 40%.
- أملاك يهودية 26,12%.
- أملاك مسيحية 13,86%.
- أملاك حكومية وبلدية 2,9%.
- طرق سكك حديدية 17,12%، المجموع 100%.
وتوسعت المساحة المبنية من 4130 دونماً عام 1918 إلى 7230 دونماً عام 1948، وبين عامي (1947، 1949) جاءت فكرة التقسيم والتدويل، لأنّ فكرة تقسيم فلسطين وتدويل القدس لم تكنْ جديدة فقد طرحتها اللجنة الملكية بخصوص فلسطين (لجنة بيل)، حيث اقترحت اللجنة إبقاء القدس وبيت لحم إضافةً إلى اللد والرملة ويافا خارج حدود الدولتين (العربية واليهودية) مع وجود معابر حرة وآمنة، وجاء قرار التقسيم ليوصي مرة أخرى بتدويل القدس. وقد نصّ القرار على أنْ تكون القدس (منطقة منفصلة) تقع بين الدولتين (العربية واليهودية) وتخضع لنظام دولي خاص، وتُدار من قِبَل الأمم المتحدة بواسطة مجلس وصاية يقام لهذا الخصوص وحدّد القرار حدود القدس الخاضعة للتدويل بحيث شملت (عين كارم وموتا في الغرب وشعفاط في الشمال، وأبو ديس في الشرق، وبيت لحم في الجنوب)، لكن حرب عام 1948 وتصاعد المعارك الحربية التي أعقبت التقسيم أدّت إلى تقسيم المدينة إلى قسمين.
وبتاريخ 30/11/1948 وقّعت السلطات "الإسرائيلية" والأردنية على اتفاق وقف إطلاق النار بعد أنْ تم تعيين خط تقسيم القدس بين القسمين الشرقي والغربي للمدينة في 22/7/1948 وهكذا ومع نهاية عام 1948 كانت القدس قد تقسمت إلى قسمين وتوزعت حدودها نتيجة لخط وقف إطلاق النار إلى:
- مناطق فلسطينية تحت السيطرة الأردنية 2,220 دونماً 11,48%.
- مناطق فلسطينية محتلة (الغربية) 16,261 دونماً 84,13%.
- مناطق حرام ومناطق للأمم المتحدة 850 دونماً 4,40%.
المجموع: 19,331 دونماً 100%.
وهكذا، وبعد اتفاق الهدنة تأكّدت حقيقة اقتسام القدس بينهما انسجاماً مع موقفها السياسي المعارض لتدويل المدينة.
وبتاريخ 13/7/1951 جرت أول انتخابات لبلدية القدس العربية، وقد أولت البلدية اهتماماً خاصاً بتعيين وتوسيع حدودها البلدية، وذلك لاسيتعاب الزيادة السكانية واستفحال الضائقة السكانية وصودق على أول مخطط يبين حدود بلدية القدس (الشرقية) بتاريخ 1/4/1952، وقد ضمّتْ المناطق التالية إلى مناطق نفوذ البلدية (قرية سلوان، ورأس العامود، والصوانة وأرض السمار والجزء الجنوبي من قرية شعفاط), وأصبحت المساحة الواقعة تحت نفوذ البلدية 4,5كم2 في حين لم تزِدْ مساحة الجزء المبنيّ منها عن 3كم. وفي 12/2/1957 قرر مجلس البلدية توسيع حدود البلدية، نتيجة للقيود التي وضعها (كاندل) في منع البناء في سفوح جبل الزيتون، والسفوح الغربية والجنوبية لجبل المشارف (ماونت سكويس) بالإضافة إلى وجود مساحات كبيرة تعود للأديرة والكنائس، ووجود مشاكل أخرى مثل كون أغلبية الأرض مشاعاً ولم تجرِ عليها التسوية (الشيخ جراح وشعفاط)، وهكذا وفي جلسة لبلدية القدس بتاريخ 22/6/1958 ناقش المجلس مشروع توسيع حدود البلدية شمالاً حيث تشمل منطقة بعرض 500 م من كلا جانبي الشارع الرئيسي المؤدّي إلى رام الله ويمتدّ شمالاً حتى مطار قلنديا.
واستمرّت مناقشة موضوع توسيع حدود البلدية بما في ذلك وضع مخطط هيكل رئيسي للبلدية حتى عام 1959 دون نتيجة.
حدود عام 1967:
وفي عام 1964، وبعد انتخابات عام 1963 كانت هناك توصية بتوسيع حدود بلدية القدس لتصبح مساحتها 75كم, ولكن نشوب حرب عام 1967 أوقف المشروع، وبقيت حدودها كما كانت عليه في الخمسينات. أما القدس الغربية فقد توسعت باتجاه الغرب والجنوب الغربي وضمت إليها أحياء جديدة منها (كريات يوفيل وكريات مناحيم وعير نحانيم وقرى عين كارم وبيت صفافا ودير ياسين ولفتا والمالحة) لتبلغ مساحتها 38كم2.
أثر حرب حزيران على الحدود:
بعد اندلاع حرب 1967 قامت "إسرائيل" باحتلال شرقي القدس، وبتاريخ 28/6/1967 تمّ الإعلان عن توسيع حدود بلدية القدس وتوحيدها، وطبقاً للسياسة "الإسرائيلية" الهادفة إلى السيطرة على أكبر مساحة ممكنة من الأرض مع أقلّ عددٍ ممكن من السكان العرب.
لقد تمّ رسم حدود البلدية لتضمّ أراضى 28 قرية ومدينة عربية، و إخراج جميع التجمعات السكانية العربية، لتأخذ هذه الحدود وضعاً غريـباً، فمرّةً مــع خطوط التسوية (الطبوغرافية) ومرة أخرى مع الشوارع، وهكذا بدأت حقبة أخرى من رسم حدود البلدية، لتتسع مساحة بلدية القدس من 6,5كم2 إلى 70,5 كم2 وتصبح مساحتها مجتمعة (الشرقية والغربية 108,5 كم2) وفي عام 1995 توسعت مساحة القدس مرة أخرى باتجاه الغرب لتصبح مساحتها الآن 123كم2.
القدس وطنٌ في مدينة لا مدينة في وطن
لكن القدس في حقيقتها و"شخصيتها" التاريخية والدينية شيء آخر، فهي هوية المكان من حولها، والنقطة التي تنتشر منها البركة فتزداد أهميةُ ما حولها بها: (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ البَصِير) (سورة الإسراء: 1.)
وكما يقول مفكرنا الكبير المستشار طارق البشري: "ليست القدس مدينة في وطن هو فلسطين، ولكن فلسطين وطن في مدينة هي القدس... القدس لا يمكن أن تستحيل إلى أنها محض موقعٍ وعاصمة، فهي ليست برلين يمكن أن تحلّ محلها بون في الضمير الألماني، وهي ليست إستانبول يمكن أن تحلّ محلها أنقرة في الضمير التركي، ولكنها القدس بغير بديل".
وهناك اصطلاحات ومفاهيم ذات تعلق بالمدينة المباركة فيها بعض اللبس المحتاج إلى إيضاح وبيان؛ ولذلك أهميته في تعرف قضيتنا الأم، والذود والدفاع عنها.
الاحتلال وتمزيق الجسد القدسي
قبل الاحتلال البريطاني البغيض لفلسطين (سنة 1917م) لم تكنْ هناك سوى قدس واحدة، هي تلك التي تحيط بها أسوار سليمان القانوني التي بناها السلطان الكبير في منتصف القرن العاشر الهجري، إضافةً إلى مجموعة من الأحياء أقامها العثمانيون خارج سور القدس في الشمال والشرق والجنوب، مثل حي الشيخ جراح في الشرق، وحي المسعودية في الشمال...
وفي أثناء الاحتلال البريطاني تلاعب المندوبون الساميون بالحدود البلدية للمدينة المباركة، فركَّز رسمهم لحدود بلدية القدس على التوسّع جهة الغرب عدة كيلومترات؛ حيث الكثافة السكانية لليهود أعلى، أمّا في الجنوب والشرق حيث السكان عرب فلم يتجاوزْ الامتداد بضع مئات من الأمتار، فمُنِعت قرى عربية كبيرة من الدخول ضمن الحدود البلدية للقدس، وهي قرى: الطور، ودير ياسين، وسلوان، والعيسوية، والمالحة، وبيت صفافا، وشُعفاط، ولَفتا، وعين كارم.
هنا ظهرت القدس كمدن عدّة لا كمدينة مسلمة واحدة– كما هو المعتاد:
– فـ"القدس القديمة" أو العتيقة هي تلك الموجودة داخل سور سليمان القانوني، ومساحتها 8,71 دونماً (الدونم= 1000م2)، وطول السور 4,20كم2، وتقوم على أربعة جبال هي: جبل الموريا، وجبل صهيون، وجبل أكرا، وجبل بزيتا، ويوجد الحرم القدسي الشريف في الجنوب الشرقي للقدس القديمة فوق جبل الموريا.
– و"القدس الشرقية" هي القدس القديمة نفسها مضافاً إليها الأحياء التي زادها المسلمون خارج السور، مثل حي الشيخ جراح، وحي باب الساهرة، وحي وادي الجوز. وقد ظهر هذا المصطلح مع احتدام الصراع بين المسلمين واليهود في فلسطين قبل قيام الكيان الصهيوني، فقد تركّز العرب في شرق المدينة بأغلبية كبيرة، في حين تركّز اليهود بأغلبية ساحقة في غربها، فسُمِّي القسم الشرقي بـ"القدس الشرقية"، وأُطلق على الجانب الغربي اسم "القدس الغربية".
– و"القدس الغربية" هي القدس الجديدة التي نشأت في ظلّ الانتداب البريطاني على فلسطين؛ لتستوعب الهجرات اليهودية المتتالية، وقد اتسعت اتساعاً كبيراً، وضمّها البريطانيون إلى الحدود البلدية للقدس عام 1946م، فصارت مساحة القدس كلها 19000كم2؛ أي أكثر من عشرين ضعفاً من القدس العتيقة.
– و"القدس الموحدة" مصطلح يستعمله اليهود دلالةً على القدسيْن معاً (الشرقية والغربية)؛ لأنّ المدينة انقسمت عقب حرب سنة 1948م، فسيطَر الصهاينة على الجانب الغربي منها، واحتفظ الجيش الأردني بقيادة عبد الله التل -رحمه الله- بالجانب الشرقي، وحين سيطر اليهود على القدس كلّها يوم 7 يونيو سنة 1967م وحَّدوا المدينة وأصرّوا على فكرة "القدس الموحدة عاصمة أبدية لـ(إسرائيل)!!.
- و"القدس الكبرى" هي القدس الموسَّعة التي يحاول الصهاينة بها صنع هوية للمدينة تنمحي معها هويتها الإسلامية، فتبدو الأغلبية السكانية اليهودية كاسحة، وتصبح مساحة الأرض التي يسيطر عليها العرب صغيرة جدّاً بالنسبة لما يسيطر عليه اليهود.
ويستهدف مشروع القدس الكبرى تطويق الأحياء العربية في المدينة القديمة، وفصلها عن الأحياء العربية القائمة خارج السور؛ لإجبار العرب على معيشةٍ صعبة تذوب هويتهم معها، أو يضطرون إلى الهجرة من بيوتهم وأوطانهم.
على أية حال، فإنّ القدس بقديمها وجديدها وشرقها وغربها مدينة عربية إسلامية، فاليهود حينما وسَّعوها لم يأتوا بأرضٍ من عندهم، وإنما اقتطعوا من مناطق أخرى من فلسطين المحتلة، التي نزلوا بها ضيوفاً في زمن بعيد، وعاشوا أعزّة، ثم دار الزمن دورته، فعادوا يقولون: أورشليم هي بلدنا وبلد أجدادنا!!.
المسجد الأقصى نبض القدس الأسير
إضافةً إلى السور الذي يحيط بالقدس العتيقة هناك سورٌ تاريخيّ آخر في المدينة هو سور الحرم القدسي الواقع فوق جبل الموريا في الجنوب الشرقي للقدس العتيقة، ويبلغ طول الضلع الغربي للسور 490م، والشرقي 474م، والشمالي 321م، والجنوبي 283م. ولا يضمّ الحرم داخل أسواره بناءً واحداً فقط، بل عدداً كبيراً من الأبنية الإسلامية، أشهرها قبة الصخرة.
والمصطلح التاريخي "المسجد الأقصى" إذا أُطلِق مقصودًا به العموم (كما كان يفعل أسلافنا قبل القرون المتأخرة)، فهو كلّ هذا الحرم القدسي الواقع داخل السور. وحسب هذا المفهوم فإنّ مسجد قبة الصخرة جزءٌ من المسجد الأقصى، ومسجد عمر الذي بناه أمير المؤمنين عند فتح المدينة وجدّده عبد الملك بن مروان فيما بعد- هو أيضاً جزء من المسجد الأقصى.
وأهمية بيان هذه المسألة أنّها تحدّد البقعة التي يُضاعَف أجر الصلاة فيها، فيكون بخمسمائة صلاة فيما سواها، إلا المسجدين الحرام والنبوي، فالمضاعفة تشمل أرض الحرم كلها، وليست خاصة بمسجد عمر ومسجد قبة الصخرة.
غير أنّ البعض يطلق اسم "المسجد الأقصى" على مسجد قبة الصخرة ذي القبة الذهبية اللامعة، ويظن أُناسٌ أنّ هذا خطأ "فادح"، ومحاولةٌ لتزوير تاريخ المسلمين وآثارهم! وما هو بالخطأ الفادح ولا شيء، فالذي يجيز أنْ نطلق على مسجد عمر –وهو جزء من الحرم الأقصى- اسم "الأقصى"، ليس له أنْ يمانع في إطلاق هذا الاسم على مسجد قبة الصخرة -وهو الآخر جزء من الحرم- وإنْ كان الأولى والأفضل أن نحتفظ لكلّ موضع من هذه الثلاثة باسمه، حتى نعرف جيداً الأحكام الشرعية ذات العلاقة بالمسجد المبارك.
وأخيراً هناك في القدس مسجدٌ يُسمَّى "المسجد العمري"، يختلف تماماً عن مسجد عمر الموجود ضمن أرض الحرم، فالثاني بناه الخليفة الراشد عمر -رضي الله عنه- أوائل القرن الأول الهجري، وجدّده الأمويون والعباسيون ومَن بعدهم، وتبلغ مساحته الآن من الداخل أربعة آلاف وأربعمائة متر. وأمّا المسجد العمري، فقد بناه الأفضل بن صلاح الدين الأيوبي سنة 569هـ في الموضع الذي صلَّى فيه عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- حين رفض أنْ يصلّي داخل كنيسة القيامة.
المشهد الديمغرافيّ لمدينة القدس
في مدينة القدس، هناك محاولة بحث لا تعتمد المدونات، بل: الأرض، الطوبوغرافية والعلم والإحصاءات...
موقع القدس
قامت مدينة القدس في مكانها الحالي منذ الألف الثالث قبل الميلاد على أربعة جبال:
جبل موريا (المختار): ويقوم عليه الحرم الشريف.
جبل صهيون (النبي داود): بنيت عليه القدس اليبوسية.
جبل بيزيتا (بيت الزيتون): قرب باب الساهرة اليوم.
جبل أكرا: وتقوم على سفوحه كنيسة القيامة.
وتحيط بها مجموعة أخرى من الجبال امتدت إليها المدينة منذ مطلع هذا القرن، وأهمها جبل الزيتون في الشرق وسكوبس في الشمال والمكبر وأبو غنيم في الجنوب.
التشكيل الطوبوغرافي اليبوسي العربي للمدينة
تفرّدت منذ القديم بمزية أعطتها المهابة والقداسة، فإلى جانب انحدارٍ سحيق ينخفض حتى منسوب 450م تحت سطح البحر، باتجاه البحر الميت، ترتفع خطوط تسوياتها حتى منسوب 800م فوق سطح البحر.
أنشأها اليبوسيون العرب منذ خمسة آلاف عام، فمنحوها اسمهم ونسبة إلى إلههم سالم، سميت بأور سالم أي مدينة سالم. وطوع اليبوسيون طوبوغرافية مدينتهم العصية، باستخدام مصاطب متدرجة بنيت من أحجار ضخمة، استخدمت كمساحات مستقرة لبناء بيوتهم، ودعامات لأسوار المدينة. وعلى الرغم من انهيار هذه الدعامات فقد عثر الأركيولوحيون على أجزاء هامة منها.
ومما يدهش حقاً حفرهم لنفقٍ يمتد من نبع (جيحون) في منحدرات السطح الشرقي إلى بركة (سلوان) في السفح الغربي، وتحت مدينتهم بطول 510 أمتار. وبسبب الموقع المتوسط للمدينة والمنطقة باعتبارها معبراً تجارياً، تعرضت لأكثر من اجتياحٍ خلال تاريخها الطويل الأمر الذي يبدل من طوبوغرافيتها وتشكيلها الديمغرافي، ولكنها ما أسرع ما تعود إلى وجهها العربي الأصيل.
دحض التشكيل الطوبوغرافي اليهودي للقدس بحسب الادّعاءات التوراتية
تتحدث التوراة عن استيلاء داود على القدس اليبوسية، وامتدادها باتجاه الخطوط الطوبوغرافية العلوية للمدينة؛ لتعطيها اسم مدينة داود. وتزعم التوراة امتداد المدينة في عصر ابنه سليمان حتى قمة الجبل حيث تدّعي إقامة هيكله المزعوم. لكن التنقيبات الأثرية، التي قام بها علماء آثار، يهود ومستشرقون غربيون منذ أكثر من مائة عام، لم تشِرْ إلى وجود حقبة دولة، ولا إلى آثار لهيكل مزعوم، وما عثر عليه لا يزيد عن حجارة خشنة مغطاة بالطين، وبعض أساسات المصاطب المنهارة وهي تعود إلى العصر اليبوسي العربي.
تروي مصادر التاريخ الغربية ومعظمها يعتمد التوراة كمراجعة، تسلسلاً تاريخياً يبتدئ بالسبي البابلي وينتهي بتدمير مدينتهم ومعابدهم وتشتيتهم خلال فترة الحكم الروماني.
ما يعنينا في هذا البحث، ما يقدّمه علم الآثار ودراساته، حول التبدلات الطبوغرافية المكانية، للأحداث الجارية خلال هذه الحقبة. هناك إشارات وأدلة من خلال نصوص نينوى وبابل وكذلك النصوص المصرية، إلى تبديل ديمغرافي أساسي طرأ على مدينة القدس، حيث تدفقت على المدينة أعداد كبيرة من اليهود، إضافة إلى أقليات مصرية وفارسية ويونانية ورومانية، استوطنت التلال الغربية للمدينة، وعلى الرغم من ذلك فإنّ براهين عديدة تدل على بقاء اللغة الآرامية العربية سيدة الموقف في كامل المنطقة.
ومن هنا تعاملت الأبحاث الأركيولوجية مع الوضع الاستيطاني اليهودي في تلك الحقبة على أرضية أحداث شغب وفتن، لتصل إلى العصيات وتجاوزت ذلك، لتعطيه حدود الحكم الذاتي الذي منح للمدينة أحياناً ولم يعطِ هذا الاستيطان الوضع الحقوقي للدولة، كما نفت تلك الأبحاث وجود آية أدلة على تشكل طوبوغرافية يهودية للمدينة. وتبرز هنا إشكالية (هيرود) الكبير.
التشكيل الطوبوغرافي الهيرودي للقدس
عين الرومان هيرود حاكماً على اليهودية، فاتخذ من القدس عاصمة له، سنة 37 ق.م. وتتحدث المصادر التاريخية عن هويته: رومانيّ في انتمائه هيلينياً في أفكاره، يهوديّ في ظاهر ديانته، باعتبار أنّه يمتّ إلى الأدوميين سكان عسقلان الذين أُكرِهوا على الدخول في الدين اليهودي بحد السيف خلال الحقبة المكانية.
اعتمد هيرود إنشاء طوبوغرافية رومانية للمدينة شأنه في ذلك شأن الحكام والأباطرة في سائر أرجاء الإمبراطورية الرومانية. فالمعبد الضخم الذي أشاده على الموقع الذي تشغله حالياً ساحة الحرم الشريف، أقامه على دعامات ومصاطب حجرية هائلة حيث زادت ارتفاعات بعض الأساسات على ارتفاع 40 متراً وذلك من أجل تحمل الكميات الهائلة من الردميات من جهة، ولترويض عناصر الطوبوغرافية الطبيعية لمنحدرات الموقع من جهة أخرى. والمنصة المشادة من قبله، تقارب المنصة الحالية للحرم الشريف. لم يبق للمعبد أثر، فالأبحاث الأركيولوجية تشير إلى بقايا التأسيسات والتدعيمات للمنصة، في جانبيها الجنوبي والغربي..
بنى هيرود قلعة ضخمة شمالي معبده، وأجزاؤها السفلية ما تزال موجودة، مما يسمى اليوم ببرج داود، ويمكن أنْ يكون أحد الأبراج الثلاثة التي وصفها المؤرخ يوسفيوس. كما بنى قصراً في الجانب الغربي من المدينة إضافة إلى حمامات ومسرح. ويمكن تلمّس بعض آثار هذه المنشآت، وهي تشير إلى الطرازين اليوناني والروماني المألوفين، ولم يعثرْ على أية آثار تدل على خلفية يهودية.
لقد توسعت في هذا البحث لأهميته، حيث إنّ كلّ الادّعاءات اليهودية هي محاولة مصادرة الطوبوغرافية الهيرودية الرومانية، وإيهام العالم بأنها تعود إلى عهود سحيقة، عبر الصياغة التوراتية للتاريخ والطوبوغرافيا.
لم تعمر قدس هيرود طويلاً، فقد تسلل اليهود إلى معبدها بعد موت (هيرود) فصبغوا المعبد بصبغتهم، وانقضّوا على الحامية الرومانية فيها، وهذا ما استدعى قيام (تيطس) عام 70 ميلادية، إلى إخماد انقلاب اليهود. ولدى تكرر ذلك، هاجمهم (هادريان) عام 132 ميلادية فدمر المدينة بما في ذلك المعب، وشتّت يهودها، وأصدر مرسوماً بتحريمها عليهم. ثم أنشأ على أنقاضها مدينة جديدة أسماها (إيليا) نسبة إلى اسمه (إيليا هادريان)، تقارب حدودها حدود (المدينة القديمة) الحالية، مبقياً على المنصة الحالية للحرم الشريف، مشكّلاً تبديلاً طوبوغرافيا للمدينة إضافة للتبديل الديموغرافي الناشئ عن إقصاء اليهود عن المدينة.
إعادة التشكيل الطوبوغرافي العربي للقدس
في إشارات ودلالات قوية، انطلق السيد المسيح من الناصرة ماراً بجبل الزيتون، متّجهاً إلى قلب القدس وروحها، لتحقيق خلاصها من اليهودية، وخلال القرون الثلاثة التالية من عهد قسطنطين وحتى الفتح العربي الإسلامي كانت الطوبوغرافية المبينة للمدينة عبر أربع من أعلى نقاطها تحت إطلالة أربعة معالم مسيحية عربية بارزة..
وفي إشارات ودلالات قوية مماثلة، يتحقق الإسراء من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى لإعطاء المشهد تضمينات سياسة واضحة. وخلال خمسين عاماً، فقط، يتعاقب الخلفاء العظام لترسيم طبوغرافيا عربية للمدينة. ففي عام 637ميلادية، يدخل عمر القدس، موطّداً شراكه كاملة، محدّداً المنصة الهيرودية -حرماً شريفاً- تضم الصخرة والمسجد الأقصى.
وفي عام 661 ميلادية، يأخذ معاوية البيعة من زعماء المسلمين والمسيحيين على السواء على أرض الحرم الشريف. في سابقة هي الأولى من نوعها: اقتران القدس بمنح الشرعية للسلطة.
وما بين 692 ميلادية و702 ميلادية، يقوم عبد الملك بن مروان وابنه الوليد، بتوطيد التشكيل الطوبوغرافي العربي للمدينة على الأرض وبالحجر، بإعادة بناء المنصة المنشأة أساساتها من قبل هيرود الكبير، وقبة الصخرة والمسجد الأقصى، وبذلك يكتمل المشهد الساحر للمدينة الذي ينطق بحس تناسق التصميم والتوظيف المدهش للألوان..
وقد استمر هذا التشكيل الطوبوغرافي والديمغرافي للمدينة حتى عام 1099 ميلادية عندما اجتاحتها الحملة الصليبية؛ التي خاض فيها الصليبيون الفرنجة الدماء حتى الركب، في المسجد الأقصى، وتحت أقدامهم سبعون ألف جثة.. لقد أزالوا الشارات العربية: المسيحية والإسلامية عن المدينة وأعلنوا القدس عاصمة للملكة اللاتينية.
وخلال أيام معدودة، تبدلت ديمغرافية المدينة وامتلأت طرقاتها وأحياؤها بالمحاربين وقد قدِموا تحت أقنعة دينية كاذبة. فإذا هم خليط من تجار جنوة والبندقية ورهبان عسكريون وحشود من ميلشيات الداوية والإسبارتية ورعايا ملوك إنكلترا وفرنسا..
لم تطل الأمور، 88 عاماً فقط، يعود صلاح الدين محرّراً المدينة معيداً ما تهدّم من أسوارها وأبراجها وبواباتها، مدشّناً المدارس والزوايا والمستشفى الكبير، ثم يولي اهتمامه لإعادة ترميم وتزيين المسجد الأقصى وقبة الصخرة، لتستعيد القدس مشهدها الطوبوغرافي العربي الأصيل، إضافة إلى عودة سيادة العرب الديمغرافية على المدينة.
ويتابع سلاطين المماليك ما بدأه صلاح الدين، فيتألّق الطراز المعماري العربي الإسلامي على المنشآت المختلفة في المدينة، ولضيق المدينة على سكانها، فقد قاموا بردم الوادي الملاصق للجدار الغربي للحرم الشريف -حائط البراق- بإنشاء عقود ضخمة جرى ردمها من الأعلى، من أجل توسيع الأحياء المبنية بجوار الحرم الشريف... والنفق الذي أحدث انتفاضة 1996 هو الفراغ الذي تشغله من الأسفل هذه العقود..!
ثم يكمل السلطان سليمان القانوني، آخر مشهد للطبوغرافية العربية لمدينة القدس، بإعادة تشييد أسوار المدينة وعماراتها.. وقد بقيت أعمال هذا السلطان العظيم شاهدة على عروبة القدس حتى مطلع هذا القرن..
الطبوغرافية اليهودية للقدس "التهويد"
لم يسلم الغرب بخسارة معركة القدس أمام صلاح الدين، فمع صعود ظاهرة الاستعمار وتراجع الدولة العثمانية، بدأ يستعد للرجوع إلى الشرق، باستخدام جسور جديدة أهمها الاستيطان اليهودي لفلسطين.
تلقفت اليهودية العالمية هذه الإشارة، فتلاقت الأهداف فمصالحهما لا تتناقض، وكانت ولادة الصهيونية -الحركة السياسية ليهود العالم- من رحم الغرب ومصالحه.
ولأن السيطرة على القدس تضفي الشرعية على السلطة، كانت القدس مدخلاً للسيطرة على كامل المنطقة.. وعلى هذا الاعتبار، فقد تمكن الممول البريطاني اليهودي المشهور موسى مونتفيوري من الحصول على فرمان من السلطان العثماني عبد المجيد الأول عام 1855، لشراء أول قطعة أرض خارج سور المدينة القديمة لغرض إقامة مستشفى، تحوّلت إلى حي مونتفيوري -حجر الأساس للقدس الغربية. ولم تمضِ سنة 1892 حتى أصبحت الأحياء اليهودية غرب المدينة القديمة ثمانية أحياء، وأضحى اليهود يشكّلون ثلثيْ سكان مدينة القدس، وفي 11 كانون الأول 1917، أيْ بعد مرور أربعين يوماً على إصدار بريطانيا لوعد بلفور، دخل الجنرال اللبني مدينة القدس، وفي مقدّمة جيشه الفيلق اليهوديّ الذي تشكّل في مدينة الإسكندرية، إنها محاولة، بل مشروع لرسم طوبوغرافية جديدة للقدس كوطن قومي يهودي بحراسة الحراب البريطانية.
وعندما تشكّلت الإدارة المدنية البريطانية في القدس في الأول من تموز 1920 تسلم يهود بريطانيون الوظائف العامة، كما عهد لفنيين يهود مهندسين ومساحين بإدارة الأجهزة الفنية لتسهيل انتقال الأراضي للمؤسسات والشركات اليهودية. وتحت حماية السلطة المنتدبة ودعمها قامت هياكل سياسية لتكوين البنية المدينة للدولة اليهودية.
ومما يُحزِن أنّ العرب لم يكونوا يدركون أبعاد ما يجري، وأن المؤسسات العلمية اليهودية كالأليانس والتحتيون والجامعة العبرية كانت تسعى للتحضير لمجتمع يهودي يتسلّح بالعلم والتكنولوجيا، وإنتاج نوعيّ لا يعتمد عدد السكان وتوفر المواد الخام.
ففي افتتاح الجامعة العبرية في الأول من نيسان عام 1925 على جبل سكوبس، اشتركت الفعاليات الفلسطينية والعربية بامتياز في هذا الافتتاح. واستمر صعود المؤسسات اليهودية التي تتلقى الدعم من كل أنحاء العالم من الغرب والشرق، وأخذت الأراضي العربية بالتآكل ثانية بعد ثانية، والعرب يعيشون (عقلية بكرة) التي لا تتحدد بعملٍ ولا بزمن حتى عشية الخامس عشر من أيار 1948، وإذ بالدولة اليهودية تُعلَن، وتنتهي مسرحية الحرب الصورية، وتسقط القدس الغربية بكاملها في أيدي اليهود: ومساحتها 21310 دونمات، ويبقى للعرب في القدس الشرقية 2220 دونماً، أي 9% وضمنها القدس القديمة، وتبقى مساحة 850 دونماً منطقة للأمم المتحدة، مع إبقاء جبل سكوبس تحت السيادة "الإسرائيلية"، وتتوضع عليه الجامعة العبرية ومستشفى هداسا.
وهكذا تتحقق سيطرة الدولة اليهودية على 91% من طوبغرافية القدس وتعاني القدس نتائج النكبة الكبرى في 5 حزيران 1967.. إنه يوم أسود لا يُنْسى في تاريخ القدس.. في يوم الأربعاء الواقع في 7 حزيران 1967 انطلق قائد الفرقة المظلية مردخاي غور بسيارته نصف المجنزرة من أمام فندق كونتيننال في أعلى جبل الزيتون باتجاه الحرم الشريف؛ حيث وصله بعد سبع دقائق فقط، وبوصوله أرسل رسالته المشهورة: "THE TEMPLE MOUNT IS OURS" أي "جبل الهيكل لنا"، وتسقط مدينة القدس.. وتبدأ الدولة اليهودية باستكمال السيطرة على طوبوغرافية المدينة وإخلائها من سكانها العرب...
لجأت الدولة اليهودية إلى قصف المدينة خارج السور وداخله لثلاثة أيام متتالية على الرغم من انسحاب القوات الأردنية منها، وانعدام المقاومة فيها.. وقد تم تدمير آلاف الأبنية وتهجير سكانها بعشرات الآلاف.
لقد باشر اليهود أعمال الهدم والنسف، وسوّت الجرافات بالأرض حي المغاربة؛ ذلك الحي الذي بناه صلاح الدين للمرابطين المغاربة الذين قاتلوا لاستعادة القدس من الصليبين، وطالت أعمال التهديم حي (الشرف والسلسة) ومنازل كثيرة..
وبتاريخ 28/6/1967م أصدر الكنيست "الإسرائيلي" قانوناً وحّد المدينة تحت السيادة اليهودية بعد أنْ وسّع حدود المدينة من 38000 دونم إلى 106000 دونم، وذلك لتهويد ما تبقّى من المدينة إضافةً إلى ابتلاع القرى والضواحي العربية في محيط المدينة.
وفي إطار سياسة التهويد الداخلية نقلت الحكومة "الإسرائيلية" مقرها إلى الممتلكات العربية المصادرة في القدس الشرقية، وربطت شبكات المياه والكهرباء والهاتف بالشبكات المركزية اليهودية.
وفي إطار التبديل الطوبوغرافي للمدينة، بدأت الحكومة "الإسرائيلية" بنزع عروبة المعمار، أو الطراز المعماري العربي بهدم كلّ دلالة تشير إلى الثقافة والتاريخ العربي الإسلامي، فأزالت كافة الأحياء الملاصقة للحرم الشريف، وتشمل أبنية مساجد ومدارس، وبيوت أثرية.. وذلك من أجل التنقيب عن آثار لادعاءات مزعومة، وحولت مساحات واسعة إلى حدائق وممرات مشاة لتخديم المدينة اليهودية الموحدة.
وقد أوجدت الحكومة "الإسرائيلية"، وفق نظامها الخاص بها، الأسس التي تستند إليها في مصادرات واسعة النطاق تحت عنوان "التطوير في البناء المدني":
1. صادرت في الفترة الواقعة ما بين 1968 و1970؛ 15000 دونم أرض في القدس الشرقية لكي تقام فوقها أحياء سكن جديدة.
2. صادرت في الفترة الواقعة ما بين 1973 و1976؛ 90000 دونم أراضي في القرى المحيطة بالقدس من الشمال والشرق والجنوب. إضافةً إلى عشرة آلاف دونم في مناطق متفرقة.
3. صادرت عام 1980م حوالي 4000 دونم في القسم الشمالي على الطريق الرئيسية إلى رام الله، وقد مكّنتها المصادرات ومجموعها 119000 دونم لإقامة أربعة أحزمة استيطانية فوق المنطقة الموسعة لمدينة القدس..
الحزام الأول: ويتلخص اعتباره السياسي في تطويق قلب المدينة المكتظ بالسكان العرب، ببناء أحياء يهودية تؤدّي إلى فك ارتباط الأحياء فيما بينها، والسيطرة الاستراتيجية على المناطق المرتفعة فوق التلال إضافة إلى خلق أكثرية سكانية يهودية في المدينة. وقد جرى إشادة أربعة أحياء: رامات أشكول؛ جيفات هاميفتار؛ التلة الفرنسية؛ امتداد سانهدريا، ثم توسيعها إلى الشرق لتتصل بمباني الجامعة العبرية وإلى الغرب بإقامة حي نهلات دفنا، وراموت. وبذلك يقدّم هذا الحزام مجموعة مساكن لـ65000 مستوطن يهودي، مع مساكن لحوالي 14000 طالب في الجامعة العبرية. وقد قطع هذا الحزام كلّ اتصالٍ بمدينتيْ رام الله والبيرة، وحاصر قرى شعفاط وبيت حنينا..
الحزام الثاني: بطول ثلاثة كيلومترات من الواحدات السكنية المتصلة، وذلك إلى الجنوب من المدينة تل بيوت، وجوار بيت صفافا "جبلو" وباتصاله بالمستوطنات التي تجري إشادتها في محيط وعلى جبل أبي غنيم... يقدم هذا الحزام مساكن لـ120000 مستوطن يهودي. مع مجمعات سياحية وفنادق يصعب حصر مساحاتها.. مهمة هذا الحزام قطع الاتصال مع مدينتي بيت لحم والخليل ودمج قرية بيت صفافا بالقدس اليهودية.
الحزام الثالث: في أقصى شمال القدس الموسعة، ويضم منشآت ومباني ووحدات سكنية -مطار القدس الدولي- إضافة إلى المنطقة الصناعية "عتاروت".. والضاحية نيفي يعقوب وعناتوت وهي تخدم مركزياً كامل المدينة الموسعة للقدس.
الحزام الرابع: على بعد 14كم شرقي المدينة، ويشمل مستوطنات معاليه أدوميم (الخان الأحمر) لعزل المدينة عن المحيط الشرقي وقطع الاتصال عن مدينة أريحا.. وتتضمن مناطق الصناعة الثقيلة في "إسرائيل" كالصلب والحديد، والمباني الجاهزة والصناعات العسكرية..
القدس الكبرى:
وقد بدأت الدولة "الإسرائيلية" بالمصادرات في نطاق "القدس الكبرى" حيث ستتم عملية ابتلاع المدن العربية الممتدة في محيط مدينة القدس: رام الله والبيرة، وبيت جالا وبيت لحم وبيت ساحور مع ما مجموعه 60 قرية عربية في منطقة يعيش فيها اليوم حوالي 120000 عربي.
وفي الإطار الديمغرافي للمدينة تدلّ الإحصاءات الأخيرة على أنّ ما بقِيَ من عرب في مدينة القدس لا يتجاوز 200000 نسمة، منهم أربعون ألفاً في المدينة القديمة والباقي في القدس الشرقية 160000 نسمة و120000 نسمة في محيط وفناء مدينة القدس يقابلهم ما مجموعه ستمائة ألف نسمة من اليهود في نطاق القدس الموسعة الكبرى، وهذا ما تهدف إليه المخططات اليهودية.
وبعد، هل هو درس في التاريخ هذا الحديث أو من التاريخ!!.. منذ وضع (موسى مونتفيوري) حجر الأساس منذ 145 عاماً، لمشروع: الطوبوغرافية اليهودية لمدينة القدس، وكل يوم أرضٌ تضيع وكل يوم تتبدل الطوبوغرافية على الأرض..
وما 28 أيلول سنة 2000 ببعيد، يوم صعد شارون منصة الحرم الشريف يعلن رسم المشهد الأخير للطوبوغرافية اليهودية لمدينة القدس بتضمينات سياسية وعسكرية، فالقدس مقترنة دائماً بإضفاء الشرعية على السلطة...
الاستيطان اليهودي في القدس
إبان الانتداب البريطاني
تتناول هذه الورقة الاستيطان الصهيوني الذي تعرضت له مدينة القدس بشطريها الشرقي والغربي إبان فترة الاحتلال البريطاني لفلسطين، والدور الذي لعبته بريطانيا في تيسير أعمال التهويد وخاصة فيما يتعلق بالهجرة وحيازة الأراضي، وسياسة التنظيم البلدي التي رعتها بريطانيا والتي روعي فيها مصلحة واحتياجات الاستيطان اليهودي، كما تتناول الورقة الصراع بين الفلسطينيين واليهود للسيطرة على المجلس البلدي كجزء من السيطرة السياسية على المدينة، كما تتناول بالتحليل كيفية سقوط الشطر الغربي من المدينة تحت السيطرة الصهيونية بعد رفض المقترحات الدولية بتدويل المدينة.
بدأت عملية تهويد القدس في العهد البريطاني في أعقاب دخول الجنرال اللنبي، بقيام المهندس ماكلين، مهندس مدينة الإسكندرية بوضع الخطة الهيكلية الأولى لمدينة القدس، وكذلك المقاييس والمواصفات والقيود المتعلقة بالبناء والتطور. وبناء على الخطة الهيكلية التي وضعها كاندل عام 1918، فقد قسمت المدينة إلى أربعة مناطق: "البلدة القديمة وأسوارها، المناطق المحيطة بالبلدة القديمة، القدس الشرقية، والقدس الغربية". تلك المخططات التي اعتبرت العمود الفقري لكافة الخطط اللاحقة. ونصت الخطة على منع البناء منعا باتا في المناطق المحيطة بالبلدة القديمة، ووضعت قيوداً على البناء في "القدس الشرقية"، وأعلنت عن "القدس الغربية" كمنطقة تطوير. أما في عهد المندوب السامي الأول، هربرت صموئيل، اليهودي الصهيوني (1920ـ1925)، فقد أخذت القدس تشهد سمات التحول ومعالم التهويد الأولى البارزة.
ابتدأت معالم التهويد تظهر مع بناء المستعمرات الأولى على هضاب القدس (وهي ما أصبحت تدعى بالمستوطنات فيما بعد)، فكانت روميما عام 1921، المستعمرة الأولى، لحقت بها تل بيوت 1922، بيت هاكيرم 1923، وميخور حاييم وميخور باروخ، رحافيا، كريات موشيه، نحلات آحيم 1924، بيت واجن، محانايم، سنهادريا 1925، كريات شموئيل 1948، نحيلا، كيرم أفراهام 1929، ارنون، تل ارزه 1931، حتى أصبح عددها ست عشرة مستعمرة وضاحية وحياً عام 1948. ومنهم من يعدها اثنتي عشرة فقط، وفقا للمقاييس المتبعة حجما وأهمية، إلا أنه من الجدير بالذكر أن عدد الأحياء والمستعمرات اليهودية التي بنيت فقط في عهد المندوب السامي البريطاني هربرت صموئيل، بلغت إحدى عشرة ضاحية يهودية ما بين عامي 1921ـ 1925، وهذا يعنى أن معظم ما بني في عهد الانتداب، قد بني في عهد المندوب السامي الأول. كما شهدت تلك الفترة تدفق رؤوس الأموال اليهودية وخاصة مع المهاجرين الذين جاءوا من ألمانيا وبولونيا، واللذين كانوا في معظمهم من الطبقة المتوسطة، الذين باعوا أملاكهم وصفّوا أعمالهم وانتقلوا مع رؤوس أموالهم إلى فلسطين.
بحيث قدر أحدهم مجموع الأموال التي وظفها اليهود في فلسطين، خلال السنوات 1932ـ1935، بنحو 31 مليون ليرة فلسطينية، مقابل 20 مليونا تم توظيفها خلال السنوات 1921ـ1931. حسب تقدير ارلوزروف. (في الوقت الذي بلغت فيه ميزانية حكومة فلسطين السنوية حوالي 2 مليون جنية) هذا في الوقت الذي تدفقت فيه رؤوس الأموال الأميركية والغربية إلى فلسطين لاستثمارها في مشاريع إقامة "الوطن القومي اليهودي"، حصلت القدس منها على نصيب وافر. بحيث أخذ ينتقل إليها، أو يقام فيها تدريجيا، عدد كبير من المؤسسات الصهيونية واليهودية، لجعلها مركزاً سياسيا وإداريا وتعليميا. فأصبحت المدينة مقرا للجنة التنفيذية للمنظمة الصهيونية العالمية، والوكالة اليهودية، والصندوق التأسيسي، والصندوق القومي اليهودي، والمجلس الوطني لليشوف، والحاخامية الرئيسية. وفي سنة 1925 افتتح بلفور الجامعة العبرية في القدس، والتي وضع حجر الأساس لها وايزمن بحضور الجنرال اللنبي في 24 يوليو 1918، أي قبل انتهاء الحرب العالمية الأولى تماما ببضعة أشهر. أقيم عدد من هذه المؤسسات على هضبة جبل المشارف (سكوبس) في الجهة الشمالية الشرقية من المدينة القديمة، وهو موقع استراتيجي يسيطر على شمال المدينة ويشرف على القرى المجاورة، كما يشرف على وادي الأردن وجبال الأردن الغربية كما أنه الاتجاه الوحيد المتبقي أمام أي توسع للجزء العربي من المدينة ناحية الشمال، مما يشكّل حصاراً للمدينة، يتكامل مع أطواق الاستيطان اليهودي، من الجهة الغربية، والجنوبية الغربية.
ذلك أن توسع المدينة العمراني لم يسر بشكل متساوٍ في جميع الاتجاهات، حيث أن السلطات الانتدابية قامت بوضع مخططات تنظيمية عدة للمدينة وذلك في الأعوام 1919و1922و1929/1930و1946، راعت إلى حد كبير خارطة الاستيطان اليهودي في المدينة القائمة والمستقبلية، كما وقيدت إمكانات التوسع الفلسطيني، القائمة والمستقبلية.
يضاف إلى ذلك طبيعة الموقع المتفاوت طبوغرافيا، والذي تحكم في هذا التوسع، فمن جهة الغرب ـ التي طالها التوسع أكثر من بقية الأجزاء الشرقيةـ توفرت التربة الخصبة، والأمطار والمياه، والانحدار التدريجي باتجاه اللد والرملة، والسهول الساحلية. على نقيض المنحدرات الشرقية شديدة الانحدار، وفقيرة التربة. وقد أدى ذلك إلى أن تتوسع حدود البلدية عدة مرات. فقد وصلت مساحتها عام 1930 إلى17 ضعفا من مساحة البلدة القديمة. أو ما يقارب 4800 دونم، ارتفعت عام 1948 إلى 20131 دونم.
على أن ملكية اليهود في الجزء الغربي قبل عام 1948، لم تتعد في مجموعها 20%؛ والباقي مملوك لفلسطينيين مسيحيين ومسلمين وهيئات مسيحية دولية. كان هذا القطاع، ـ كما سبق الإشارة ـ يضم الأحياء السكنية الفلسطينية الأكثر ثراء، وكذلك أغلبية القطاع التجاري الفلسطيني. في حين كانت ملكية الأراضي اليهودية ما قبل سنة 1948 في "القدس الشرقية" الراهنة محدودة جداً. ففي داخل البلدة القديمة ضمت الحي "اليهودي" الذي لم تتجاوز مساحته 5 دونمات. وخارج البلدة القديمة، ضمت مستشفى هداسا ومجمع الجامعة العبرية على جبل المشارف (سكوبس)، وكلاهما لا يتجاوزان 100 دونم، ومستوطنتي عطروت ونفي يعقوف بمساحة 500 دونم و489 دونما على الترتيب.
ساهمت الظروف السياسية المريحة، إلى حد كبير، في تنفيذ المرحلة الثانية من المخطط الصهيوني لاحتلال القدس، الذي اتسم عموما بتعزيز الوجود اليهودي فيها وإحكام تطويقها استيطانيا لمنع أي توسع عربي محتمل، ومحاولة السيطرة على الحكم البلدي كخطوة نحو السيطرة على المدينة، وتحويلها إلى عاصمة للدولة اليهودية العتيدة. انعكس ذلك في ارتفاع معدل الهجرة إلى فلسطين بشكل كبير خلال فترة الانتداب، متأثرا بعوامل أخرى خارجية، منها صعود النازية إلى الحكم في ألمانيا سنة 1933، وكذلك الأزمة الاقتصادية التي وقعت سنة 1929، التي أثرت على دول عدة، ومن ضمنها بولونيا، ورومانيا، هذا إضافة إلى إدخال السلطات البريطانية تعديلا على قانون الهجرة، في 16 مارس 1932، خفضت بموجبه المبلغ المطلوب حيازته من المهاجرين من "صنف" أصحاب الأموال، للدخول إلى فلسطين من 1000 إلى 500 ليرة فلسطينية، هذا إضافة إلى منح صلاحيات واسعة للمندوب السامي بشأن تحديد قدرة فلسطين الاقتصادية على الاستيعاب، ومن ثم تعيين عدد المهاجرين اليهود الذين يمكنهم الدخول إليها.
قفز عدد المهجرين اليهود الذين وصلوا إلى فلسطين من 1806 مهاجراً سنة 1919 إلى 8223 سنة 1920 و 13.892 سنة 1924 و 34.386 سنة 1925 و 37.337 سنة 1933 و66.422 سنة 1935 و 22.098 سنة 1947. وقد ساهم ذلك في تعزيز الجالية اليهودية في القدس بشكل كبير، وقلب الميزان الديموغرافي على النحو التالي. كانت نسبة الذين استوطنوا القدس من هؤلاء على النحو التالي: 40.7% سنة 1922؛ 30.8% سنة 1930؛ 16.7% سنة 1946؛ و11.6% سنة 1948.
وفي حين شكل العرب من مسلمين ومسيحيين أغلبية في لواء القدس، كوحدة تشمل القرى والبلدات المحيطة بالمدينة،(بلغ عدد سكان ديار بيت المقدس 1945: 295.230 منهم142،829 مسلمون، 52.600 مسيحيون، 100.200 يهود أي نسبة 34% )، فقد استطاع اليهود سفارديم وأشكنازيم، أن يصبحوا أغلبية داخل الحدود البلدية (سنة 1947: 99.4 ألف يهودي في مقابل 65.1 ألف عربي، في حين بلغ عدد العرب في البلدة القديمة 33.600 ألف يملكون 85% واليهود 2400). وقد راجع المؤرخ البريطاني، مايكل دمبر الأدبيات الديموغرافية لفترة الانتداب، وتوصل إلى تفسيرين لهذا التمايز في نسب السكان:
الأول: اعتادت الإحصاءات الانتدابية احتساب المهاجرين الذين وصولوا إلى القدس قبل سنة 1946، ثم انتقلوا بعدها إلى تل أبيب ومناطق أخرى، كأنهم باقون في القدس
الثاني: استثنت تلك الإحصاءات سكان الأرياف المحيطة بالقدس، الذين يعملون في المدينة (مثل العاملين في المدينة من سكان قريتي لفتا ودير ياسين)، بينما احتسبت في الوقت ذاته السكان اليهود الذين يسكنون خارج البلدية على أنهم من سكان المدينة (مثل سكان بيت فيغان ورمات راحيل وميخور حاييم)، وهي عملية التفافية مشوهة يسميها دامبر"الاحصاء الديموغرافي الهيكلي" (Demography Gerrymandering). أي تقسيم منطقة إلى وحدات لمصلحة جماعة معينة.
وعلى الرغم من هذه التقديرات البريطانية، فإن العرب كانوا يملكون داخل حدود بلدية القدس عام 1947، ما مجموعه 11.191 دونم من أصل 19.326 (منها 3305 دونمات أراضي الدولة)، في حين يملك اليهود 4830، أي أن العرب كانوا يملكون ثلاثة أضعاف الأرض. (وفق إحصاءات 1945 فإن لواء القدس كان يغطي مساحة 1.57 مليون دونم، منها 88.4% كان يملكها عرب، و2.1% يملكها يهود، و9.5% أرض عامة).
أثارت الأرقام المتصاعدة للمهاجرين اليهود إلى فلسطين، والسياسة البريطانية التي تلخصت بتسهيل إقامة الوطن القومي اليهودي، مخاوف الشعب العربي الفلسطيني وقياداته في فلسطين. إذ تبين لهم أن هذه الهجرة ستجعل من العرب الفلسطينيين أقلية في بلادهم خلال فترة وجيزة. فقام الشعب الفلسطيني بعدد من الانتفاضات والثورات ضد سياسة الهجرة واستملاك الأراضي، والبنود التي تضمنها صك الانتداب عن "الوطن القومي اليهودي"، وكذلك القوانين والأوامر البريطانية بخصوص استملاك الأراضي، وكان من أبرزها ثورات وانتفاضات 1920، 1929، 1933و 1936ـ1939. وكانت القدس مركز هذه الثورات جميعا أو الشرارة التي انطلقت منها. ففي حين كانت ثورتا 1920 و1929 موجهتين في الأساس ضد المهاجرين وسياسة الهجرة، فإن ثورتي 1933 و1936-1939 تميزتا بالتعرض للاحتلال البريطاني للبلد أيضا. وكان السبب المباشر لثورتي 1920 و1929 النزاعات بين اليهود والمسلمين حول الأماكن المقدسة في القدس.
الصراع على مجلس بلدية القدس
إلى جانب الجهود الحثيثة في مجال الأراضي والهجرة والاستيطان في القدس، فتحت جبهة أخرى تركزت على بلدية القدس. التي اكتسبت طابعا سياسيا هاما في عهد الانتداب. وسعي اليهود للسيطرة التدريجية عليها وخاصة بعد التسهيلات التي أمنّها لهم البريطانيون منذ احتلالهم للمدينة.
لم تختلف الممارسات البريطانية تجاه القدس عن ممارساتها تجاه القضية الفلسطينية ككل، فقد تميزت في معظمها بتسهيل سيطرة اليهود على المدن الفلسطينية بشكل عام وعلى القدس بشكل خاص، ومن أجل تحقيق ذلك تلاعبت الإدارة البريطانية بحدود المسطح البلدي فيها، وبقوائم الناخبين بحيث كانت تستثني الأحياء العربية منها، مثل (الطور، سلوان، العيسوية ، شعفاط وبيت صفافا العربية)، بينما كانت الأحياء اليهودية مهما بعدت تدخل في مسطح البلدية. أقدمت السلطات البريطانية في بداية عهد الإدارة العسكرية لفلسطين (أواخر 1917 وحتى 1920)، على حل المجلس البلدي للقدس، وتعيين لجنة لإدارة البلدية، أسندت رئاستها لعضو مسلم، ينوب عنه عضوان من الطائفتين المسيحية واليهودية.
ومع تطبيق الإدارة المدنية عام 1920، أعيد تشكيل اللجنة، وحل محلها مجلس استشاري لإدارة البلدية يتكون من عشرة ضباط بريطانيين رسميين، وعشرة أعضاء غير رسميين، يعينهم المندوب السامي: أربعة من المسلمين، وثلاثة مسيحيين وثلاثة يهود. وفي نيسان وضعت السلطات البريطانية قانون الانتخابات في العام 1926، أتاح، خلافاً للقانون العثماني، حق الانتخاب لدافعي الضرائب حتى وإن لم يكونوا من أصحاب الأملاك بل مستأجرين فقط، كما نص هذا القانون على أن الناخب يجب أن يكون مواطنا فلسطينياً بدلاً من "مواطن عثماني". تكوّن المجلس البلدي بعد عام 1927، من اثني عشر عضوا نصفهم من العرب (أربعة مسلمين ومسيحيان وستا من اليهود)، وكان ذلك نتيجة للتعديل على قانون الانتخابات، والذي فتح الباب واسعا أمام المهاجرين اليهود ليدخلوا تلك الانتخابات.
بقيت رئاسة البلدية في يد مسلم، هو حسين الخالدي، وتم تعيين موشيه شرتوك اليهودي نائبا أول لرئيس البلدية بناء على اتفاق مع المندوب السامي. ثم بدأت محاولات اليهود للمطالبة برئاسة البلدية، وبعد فشل الاقتراح الذي تقدمت به السلطات البريطانية إتباع نظام التناوب على رئاسة بلدية القدس، بسبب معارضته فلسطينياً، تم إبعاد رئيس البلدية حسين الخالدي ونفيه إلى جزر سيشيل في المحيط الهندي، لكونه عضواً في اللجنة العربية العليا, قام الإنجليز بحل المجلس في 11 تموز 1945، وتعيين لجنة بلدية من ستة موظفين بريطانيين. وبقى الأمر كذلك حتى نهاية فترة الانتداب البريطاني على فلسطين في أيار 1948.
قرار الأمم المتحدة بتقسيم فلسطين:
صادقت الجمعية العامة، في دورتها الخاصة، بقرارها رقم 181 (الدورة الثانية)، الصادر في 29 نوفمبر 1947، والمعروف بقرار التقسيم، على توصيات اللجنة (تقرير فريق الأكثرية) بعد إدخال تعديلات بسيطة عليها. حيث أوصي بدولة يهودية وأخرى فلسطينية، وكذلك نظام خاص بالقدس ـ في جزء منفصل لا يقع في أي من الدولتين المقترحتين، اليهودية أو الفلسطينية ـ تحت وصاية الأمم المتحدة. وضم هذا "الجزء المنفصل" ، مدينة القدس كلها في حدودها البلدية تحت الانتداب. وأضيف إلى هذه المنطقة نحو 20 قرية عربية .
وكان عدد سكان هذا "الجزء المنفصل" أقل قليلا من 100.000 يهودي، ونحو 105.000 عرب. وقد رفضت اللجنة العربية العليا للفلسطينيين هذا القرار، كما رفضته الدول العربية، على أساس أن الأمم المتحدة قد تخطت صلاحياتها في هذا الشأن. أما المنظمة الصهيونية، التي كانت تصر على إقامة دولة يهودية على كامل الأراضي الفلسطينية وجعل القدس عاصمة هذه الدولة، فقد قبلت به بتردد، وما لا تذكره المصادر، أن المعسكر الصهيوني التنقيحي ومنظمتيه، الأرغون وجماعة شتيرن (اللتين ينحدر الليكود منهما مباشرة) لم يقبلوا التقسيم. وفي الوقت نفسه، فإن القبول اللفظي بالتقسيم من قبل القيادة اليهودية الرسمية لم يعن القبول بـ"الجزء المنفصل" للقدس الذي كان جزءاً عضوياً من خطة الأمم المتحدة للتقسيم.
وكما تشهد الخطة دالت، التي وضعتها الهاغاناه. فإن القيادة اليهودية كانت مصممة على ربط الدولة المتصورة بالقدس في "الجزء المنفصل". إلا أنه لما كان "الجزء المنفصل" يقع عميقا داخل الأراضي العربية، في وسط الدولة الفلسطينية المتصورة، فإن إنجاز ربطه لم يكن ممكنا إلا عسكريا.
ومبكراً منذ إبريل 1948 ـ قبل نهاية الانتداب البريطاني وقبل دخول الجيوش العربية النظامية ـ قامت القوات اليهودية بهجومين عسكريين رئيسيين من أجل احتلال القدس: أحدهما من تل أبيب في اتجاه القدس عبر الأراضي التي خصصها قرار التقسيم للدولة الفلسطينية، والآخر من الحي اليهودي داخل المدينة ذاتها. وفي مسار الهجوم الثاني، سقط كل ما يشكل اليوم "القدس الغربية" في يد الهاغاناه، وارتكبت المجزرة في دير ياسين على أيدي مجموعتي الإرغون وشتيرن، اللتين قادهما رئيسا الحكومة السابقان مناحيم بيغن ويتسحاق شامير، على التوالي.
وحتى قبل النهاية المحددة للانتداب في 15 مايو 1948، فإن هدف الهاغاناه لم يكن احتلال كل منطقة القدس البلدية ـ الجزء الغربي ـ فحسب، بل أيضا احتلال المنطقة الأكبر، أي "الجزء المنفصل" ذاته بكامله. ولم يحبط إلا في اللحظة الأخيرة عبر المقاومة الفلسطينية وتدخل الجيش الأردني، وبذلك فإن السيطرة اليهودية الراهنة على "القدس الغربية" وما يسمى "الممر" الذي يصلها بالساحل تحققت عبر الاحتلال العسكري خرقا لقرار التقسيم. الذي ولّّد الدولة اليهودية نفسها. لذلك فإن الأمم المتحدة لم تعترف بالسيادة "الإسرائيلية" على "القدس الغربية" لا تصريحاً ولا تعريضاً، وإنما عارضتها ونددت بها أيضا. وكذلك فإن المجتمع الدولي، بما فيه الولايات المتحدة، لم يعترف قط إلى الآن، بصورة واضحة، بالسيادة "الإسرائيلية" على القدس بما فيها "القدس الغربية".
بانقضاء العام 1948، تمكنت "إسرائيل" من إعلان الدولة التي ترسخت أصولها على مدار عمر الانتداب البريطاني، كما تمكنت "إسرائيل" من السيطرة على الجزء الغربي من مدينة القدس، تلك المحاولة التي بدأت قبل أن تنسحب القوات البريطانية من فلسطين 14مايو 1948، لتبدأ مرحلة جديدة في تاريخ فلسطين والقدس، بما حملته تلك المرحلة من تغييرات عميقة في الخارطة السياسية. ألقت بظلالها ثقيلة على الصراع في المنطقة، على مدار النصف الثاني من القرن العشرين.
كما شهدت المرحلة الأولى لسقوط مدينة القدس 1948، البدايات الأولى لجملة من القضايا المتعلقة بالقدس ـ والتي مازالت معلقة ـ يأتي في مقدمتها، تهجير السكان الفلسطينيين من القدس، والسيطرة على أراضيهم وقراهم، ونقل ملكيتها إلى مؤسسات الاستيطان اليهودي.
وقد اتّخذت القبائل العربيّة الأولى من المدينة مركزاً لهم، " واستوطنوا فيها وارتبطوا بترابها، وهذا ما جعل اسم المدينة "يبوس". وقد صدّوا عنها غارات المصريين، وصدّوا عنها أيضاً قبائل العبرانيين التائهة في صحراء سيناء، كما نجحوا في صدّ الغزاة عنها أزماناً طوالاً.
خضعت مدينة القدس للنفوذ المصري الفرعوني بدءاً من القرن 16 ق.م، وفي عهد الملك أخناتون تعرّضت لغزو "الخابيرو" العبرانيين، ولم يستطع الحاكم المصري عبدي خيبا أن ينتصر عليهم، فظلت المدينة بأيديهم إلى أن عادت مرة أخرى للنفوذ المصري في عهد الملك سيتي الأول 1317 – 1301 ق.م.
استولى الإسكندر الأكبر على فلسطين بما فيها القدس، وبعد وفاته استمر خلفاؤه المقدونيون والبطالمة في حكم المدينة، واستولى عليها في العام نفسه بطليموس وضمّها مع فلسطين إلى مملكته في مصر عام 323 ق.م، ثم في عام 198 ق.م أصبحت تابعة للسلوقيين في سوريا بعد أنْ ضمّها سيلوكس نيكاتور، وتأثر السكان في تلك الفترة بالحضارة الإغريقية.
استولى قائد الجيش الروماني بومبيجي على القدس عام 63 ق.م وضمّها إلى الإمبراطوية الرومانية، بعد ذلك انقسمت الإمبراطورية الرومانية إلى قسمين غربيّ وشرقيّ وكانت فلسطين من القسم الشرقي البيزنطي، وقد شهدت فلسطين بهذا التقسيم فترة استقرار دامت أكثر من مئتيْ عام، الأمر الذي ساعد على نموّ وازدهار البلاد اقتصادياً وتجارياً وكذلك عمرانياً، مما ساعد في ذلك مواسم الحج إلى الأماكن المقدسة.
ولم يدم هذا الاستقرار طويلاً، فقد دخل ملك الفرس "كسرى الثاني" (برويز) سوريا، وامتد زحفه حتى تمّ احتلال القدس وتدمير الكنائس والأماكن المقدسة ولاسيما كنيسة "القبر المقدس". ويُذكَر أنّ من تبقى من اليهود انضموا إلى الفرس في حملتهم هذه رغبةً منهم في الانتقام من المسيحيين، وهكذا فقد البيزنطيون سيطرتهم على البلاد. ولم يدمْ ذلك طويلاً، إذ أعاد الإمبراطور "هرقل" احتلال فلسطين سنة 628 م ولحق بالفرس إلى بلادهم واسترجع الصليب المقدس.
ممّا ذُكِر سابقاً يُستنتج أنّ الوجود اليهوديّ في فلسطين عموماً والقدس خصوصاً لم يكنْ إلا وجوداً طارئاً وفي فترة محدودة جدّاً من تاريخ القدس الطويل.
بدأت مرحلة الفتح الإسلامي للمدينة المقدّسة عندما أسري بالنبي محمد صلى الله عليه وسلّم،حيث تجلّى الرابط الأول والمعنوي بين المسجد الأقصى والمسجد الحرام في معجزة الإسراء والمعراج، ثم أتى الرابط المادّي أيام الخليفة الراشدي الثاني عمر بن الخطاب رضي الله عنه، حيث دخل الخليفة عمر مدينة القدس سنة 636/15هـ (أو 638م على اختلاف في المصادر) بعد أنْ انتصر الجيش الإسلامي بقيادة أبي عبيدة عامر بن الجراح، واشترط البطريرك صفرونيوس أنْ يتسلّم عمر المدينة بنفسه فكتب معهم "العهدة العمرية" وبقي اسم المدينة في ذلك الوقت (إيلياء) حتى تغير إلى (القدس) في زمن العباسيين حيث ظهرت أول عملة عباسية في عهد المأمون تحمل اسم (القدس).
واتخذت المدينة منذ ذلك الحين طابعها الإسلامي، واهتمّ بها الأمويون (661 - 750م) والعباسيون (750 - 878م). وشهدت نهضة علمية في مختلف الميادين. وشهدت المدينة بعد ذلك عدم استقرارٍ بسبب الصراعات العسكرية التي نشبت بين العباسيين والفاطميين والقرامطة، وخضعت القدس لحكم السلاجقة عام 1071م، أما في العهود الطولوني والإخشيدي والفاطمي أصبحت القدس وفلسطين تابعة لمصر.
سقطت القدس في أيدي الفرنجة خمسة قرون من الحكم الإسلامي نتيجة صراعات على السلطة بين السلاجقة والفاطميين وبين السلاجقة أنفسهم.
استطاع صلاح الدين الأيوبي استرداد القدس من الفرنجة عام 1187م بعد معركة حطين، وعامل أهلها معاملة طيبة، وأزال الصليب عن قبة الصخرة، واهتم بعمارة المدينة وتحصينها، ثم اتجه صلاح الدين لتقديم أعظم هدية للمسجد، وكانت تلك الهدية هي المنبر الذي كان "نور الدين محمود بن زنكي" قد أعده في حلب، وكان هذا المنبر آيةً في الفن والروعة، ويعدّه الباحثون تحفة أثرية رائعة.
ولكن الفرنجة نجحوا في السيطرة على المدينة بعد وفاة صلاح الدين في عهد الملك فريدريك ملك صقلية، وظلّت بأيدي الفرنجة 11 عاماً إلى أنْ استردّها نهائياً الملك الصالح نجم الدين أيوب عام 1244م.
وتعرّضت المدينة للغزو المغولي عام 1243/1244م، لكن المماليك هزموهم بقيادة سيف الدين قطز والظاهر بيبرس في معركة عين جالوت عام 1259م، وضمّت فلسطين بما فيها القدس إلى المماليك الذين حكموا مصر والشام بعد الدولة الأيوبية حتى عام 1517م.
دخل العثمانيون القدس بتاريخ 28 ديسمبر 1516م (الرابع من ذي الحجة 922هـ)، وبعد هذا التاريخ بيومين قام السلطان بزيارةٍ خاصة للمدينة المقدسة حيث خرج العلماء والشيوخ لملاقاة السلطان العثماني "سليم الأول" وسلّموه مفاتيح المسجد الأقصى المبارك والمدينة. وأصبحت القدس مدينة تابعة للإمبراطورية العثمانية وظلت في أيديهم أربعة قرون تقريبًا وحفظوها بسور القدس الذي نعرفه اليوم والذي بني في عهد السلطان سليمان القانوني وبغيره من الأعمال المختلفة الأخرى.
سقطت القدس بيد الجيش البريطاني في 8-9/12/1917م بعد البيان الذي أذاعه الجنرال البريطاني اللنبي، ومنحت عصبة الأمم بريطانيا حق الانتداب على فلسطين، وأصبحت القدس عاصمة فلسطين تحت الانتداب البريطاني (1920-1948).
أعلنت بريطانيا اعتزامها الانسحاب من فلسطين يوم 14 أيار/مايو 1948، وبحلول هذا التاريخ أعلن من يُسمّى بمُخلّص الدولة المؤقت"الإسرائيلي" عن قيام "دولة إسرائيل" الأمر الذي أعقبه دخول وحدات من الجيوش العربية للقتال إلى جانب سكان فلسطين، حيث أسفرت الحرب عن وقوع غربي مدينة القدس بالإضافة إلى مناطق أخرى تقارب أربعة أخماس فلسطين تحت سيطرة الاحتلال الصهيوني.
مع اندلاع حرب حزيران 1967 أتيحت الفرصة الملائمة لدولة الاحتلال لاحتلال بقية المدينة، ففي صبيحة السابع من حزيران/يونيو 1967 بادر مناحيم بيغين لاقتحام المدينة القديمة، حيث تم الاستيلاء عليها بعد ظهر اليوم نفسه وعلى الفور أقيمت إدارة عسكرية للضفة الغربية وقام جيش الاحتلال بتنظيم وحدات الحكم العسكري لإدارة المناطق التي تحتلها دولة الاحتلال في حالة نشوب حرب.
شكّلت مدينة القدس عنوان المقاومة الفلسطينيّة هذه الأيّام، خصوصاً مع مشاريع التسوية التي أعقبت اتفاقات أوسلو عام 1994م. وكانت زيارة نائب رئيس وزراء الاحتلال الصهيونيّ السابق آرئييل شارون وانطلاقة انتفاضة الأقصى إثر ذلك إثباتاً على عنوان المرحلة المقبلة للمقاومة الفلسطينيّة. وفي المقابل تبذل السلطات اليهودية أقصى الجهد لطمس المعالم الإسلامية بالقدس رغبةً في تهويدها، فهي تعزلها عن باقي المناطق المحتلة، وتمنع الفلسطينيين من دخولها، وتدفع لها بعض اليهود، وتقيم بها أبنية على نسقٍ مغاير للملامح العربية والإسلامية، وتُحدِث بالمدينة بعض الأعمال التي من شأنها تغيير مكانة القدس سياسيّاً وديموجرافيّاً، كزرع المستوطنات والتضييق على سكان المدينة من العرب حتى يلجؤوا للهجرة. وستظل المعارك دائرة بين المسلمين واليهود إلى أنْ يتم تحرير الأقصى.
وإذا كانت ذاكرة الأمة قد ظلت داعية بمكانة القدس في هذا الصراع التاريخي المتعدد المراحل والحلقات.. فإن مهمة ثقافتنا المعاصرة هي الإبقاء على ذاكرة الأمة على وعيها الكامل بمكانة القدس حتى يطلع الفجر الجديد.
جغرافيا القدس
تقع مدينة القدس في وسط فلسطين تقريباً، إلى الشرق من البحر المتوسط على سلسلة جبالٍ ذات سفوحٍ تميل إلى الغرب وإلى الشرق. وترتفع عن سطح البحر المتوسط نحو 750م، وعن سطح البحر الميت نحو 1150 م، وتقع على خط طول 35 درجة و13 دقيقة شرقاً، وخط عرض 31 درجة و52 دقيقة شمالاً. تبعد المدينة مسافة 52 كيلومتراً عن البحر المتوسط في خط مستقيم و22 كم عن البحر الميت و250 كم عن البحر الأحمر، وتبعد عن عمّان 88 كيلومتراً، وعن بيروت 388 كيلومتراً، وعن دمشق 290 كيلومتراً.
تميزت مدينة القدس بموقع جغرافي هام، بسبب موقعها على الهضاب وفوق القمم الجبلية التي تمثل السلسلة الوسطى للأراضي الفلسطينية، والتي بدورها تمثّل خط تقسيم للمياه بين وادي الأردن شرقاً والبحر المتوسط غرباً، جعلت من اليسير عليها أنْ تتصل بجميع الجهات، وهي حلقة في سلسلةٍ تمتدّ من الشمال إلى الجنوب فوق القمم الجبلية للمرتفعات الفلسطينية وترتبط بطرق رئيسية تخترق المرتفعات من أقصى الشمال إلى أقصى الجنوب. كما أنّ هناك طرقاً عرضية تقطع هذه الطرق الرئيسية لتربط وادي الأردن بالساحل الفلسطيني.
وقد كانت أرض مدينة القدس في قديم الزمان صحراء تحيط بها من جهاتها الثلاثة الشرقية والجنوبية الغربية الأودية، أمّا جهاتها الشمالية والشمالية الغربية فكانت مكشوفة وتحيط بها كذلك الجبال التي أقيمت عليها المدينة، وهي جبل موريا (ومعناه المختار) القائم عليه المسجد الأقصى المبارك، ويرتفع نحو 770 متراً، وأعلى نقطة فيه الصخرة التي تقع فوقها قبة الصخرة المشرفة التي تشكل نقطة قلب المسجد الأقصى المبارك، وجبل "أكر" حيث توجد كنيسة "القيامة" وجبل "نبريتا" بالقرب من باب الساهرة، وجبل "صهيون" الذي يُعرَف بجبل داوود في الجنوب الغربي من القدس القديمة. وقد قُدِّرت مساحة المدينة بـحوالي كيلومتر مربع واحد، ويحيط بها سور منيع على شكل مربع يبلغ ارتفاعه 40 قدماً وعليه 34 برجاً متنظماً، ولهذا السور سبعة أبواب هي: باب الخليل، الباب الجديد، باب العامود، باب الساهرة، باب المغاربة، باب الأسباط، باب النبي داود.
نشأة النواة الأولى لمدينة القدس كانت على (تل أوفيل) المطل على قرية سلوان التي كانت تمتلك عين ماء ساعدتها في توفير المياه للسكان، وانتقلت فيما بعد إلى المناطق الأخرى التي تقع فوقها بلدة القدس المسورة اليوم، وأحيطت هذه المنطقة بالأسوار التي ظلّت على حالها حتى بنى السلطــان العثماني (سليمان القانوني) سنة1542 م السور الذي لا يزال قائماً، محدّداً لحدود القدس القديمة جغرافياً، بعد أنْ كان سورها يمتد شمالاً حتى وصل في مرحلة من المراحل إلى منطقة المسجد المعروف (مسجد سعد وسعيد)، وجنوباً حتى نهاية قرية سلوان.
وفي أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، لم تعدْ مساحتها تستوعب الزيادة السكانية، فبدأ الامتداد العمراني خارج السور، وفي جميع الجهات ظهرت الأحياء الجديدة التي عرفت فيما بعد بالقدس الجديدة، إضافةً إلى الضواحي المرتبطة بالمدينة التي كانت، وما زالت قرى تابعة لها، وقد اتخذ الامتداد العمراني اتجاهين أحدهما شمالي غربي والآخر جنوبيّ.
ونتيجةً لنشوء الضواحي الاستيطانية اليهوديّة في المنطقة العربية خصوصاً خلال فترة الاحتلال البريطاني، فقد جرى العمل على رسم الحدود البلدية بطريقةٍ ترتبط بالوجود اليهوديّ، إذ امتدّ الخط من الجهة الغربية عدة كيلومترات، بينما اقتصر الامتداد من الجهتين الجنوبية والشرقية على بضع مئات من الأمتار، فتوقف خط الحدود أمام مداخل القرى العربية المجاورة للمدينة، ومنها قرى عربية كبيرة خارج حدود البلدية (الطور، شعفاط، دير ياسين، لفتا، سلوان، العيسوية، عين كارم المالحة، بيت صفافا) مع أنّ هذه القرى تتاخم المدينة حتى تكاد تكون من ضواحيها، ثم جرى ترسيم الحدود البلدية في عام 1921 .
وفي عام 1921م تمّ ترسيم الحدود بحيث ضمت حدود البلدية القديمة قطاعاً عرضياً بعرض 400م على طول الجانب الشرقي لسور المدينة، بالإضافة إلى أحياء (باب الساهرة، ووادي الجوز والشيخ جراح) من الناحية الشمالية، ومن الناحية الجنوبية انتهى خط الحدود إلى سور المدينة فقط، أما الناحية الغربية والتي تعادل مساحتها أضعاف القسم الشرقي، فقد شملتها الحدود لاحتوائها تجمّعات يهودية كبيرة، بالإضافة إلى بعض التجمـعات العربيـــة (القطمون، البقعة الفوقا والتحتا، الطالبية، الوعرية، الشيخ بدر، مأمن الله).
وفي الفترة بين عاميْ 1946 و1948 كان المخطط الثاني لحدود البلدية. فقد وُضِع عام 1946، وجرى بموجبه توسيع القسم الغربي عام 1931، وفي الجزء الشرقي أضيفت قرية سلوان من الناحية الجنوبية ووادي الجوز، وبلغت مساحة المخطط 20,199 دونماً.
وتوسعت المساحة المبنية من 4130 دونماً عام 1918 إلى 7230 دونماً عام 1948، وبين عامي (1947-1949) جاءت فكرة التقسيم والتدويل، لأنّ فكرة تقسيم فلسطين وتدويل القدس لم تكنْ جديدة فقد طرحتها اللجنة الملكية بخصوص فلسطين (لجنة بيل)، حيث اقترحت اللجنة إبقاء القدس وبيت لحم إضافة إلى اللد والرملة ويافا خارج حدود الدولتين (العربية واليهودية) مع وجود معابر حرة وآمنة، وجاء قرار التقسيم ليوصي مرة أخرى بتدويل القدس. وقد نص القرار على أنْ تكون القدس (منطقة منفصلة) تقع بين الدولتين (العربية واليهودية) وتخضع لنظامٍ دوليّ خاص، وتُدار من قبل الأمم المتحدة بواسطة مجلس وصاية يقام لهذا الخصوص، وحدّد القرار حدود القدس الخاضعة للتدويل بحيث شملت (عين كارم وموتا في الغرب وشعفاط في الشمال، وأبو ديس في الشرق، وبيت لحم في الجنوب)، لكن حرب عام 1948 وتصاعد المعارك الحربية التي أعقبت التقسيم أدّت إلى تقسيم المدينة، وبتاريخ 13/7/1951م جرت أول انتخابات لبلدية القدس العربية، وقد أولت البلدية اهتماماً خاصاً بتعيين وتوسيع حدودها البلدية، وذلك لاستيعاب الزيادة السكانية واستفحال الضائقة السكانية وصودق على أول مخطط يبين حدود بلدية القدس (الشرقي ) بتاريخ1/4/1952، وقد ضمت المناطق التالية إلى مناطق نفوذ البلدية (قرية سلوان، ورأس العامود، والصوانة وأرض السمار والجزء الجنوبي من قرية شعفاط)، وأصبحت المساحة الواقعة تحت نفوذ البلدية 4,5كم2 في حين لم تزدْ مساحة الجزء المبني منها عن 3 كيلومترات.
وفي 12/2/1957 قرّر مجلس البلدية توسيع حدود البلدية، نتيجة للقيود التي وضعها (كاندل) في منع البناء في سفوح جبل الزيتون، والسفوح الغربية والجنوبية لجبل المشارف (ماونت سكويس) بالإضافة إلى وجود مساحات كبيرة تعود للأديرة والكنائس، ووجود مشاكل أخرى مثل كون أغلبية الأرض مشاعاً ولم تجرِ عليها التسوية (الشيخ جراح وشعفاط )، وهكذا وفي جلسة لبلدية القدس بتاريخ 22/6/1958 ناقش المجلس مشروع توسيع حدود البلدية شمالاً حيث تشمل منطقةً بعرض 500 مترٍ من كلا جانبي الشارع الرئيسي المؤدي إلى رام الله ويمتدّ شمالاً حتى مطار قلنديا، واستمرت مناقشة موضوع توسيع حدود البلدية بما في ذلك وضع مخطط هيكلٍ رئيسيّ للبلدية حتى عام 1959 دون نتيجة.
وفي عام 1964، وبعد انتخابات عام 1963، كانت هناك توصية بتوسيع حدود بلدية القدس لتصبح مساحتها 75 كم2. ولكن نشوب حرب عام 1967 أوقف المشروع، وبقيت حدودها كما كانت عليه في الخمسينات. أما غربي القدس فقد توسعت باتجاه الغرب والجنوب الغربي وضمت إليها أحياء استيطانيّة جديدة منها (كريات يوفيل، وكريات مناحيم، وعير نحانيم، وقرى عين كارم، وبيت صفافا، ودير ياسين، ولفتا، والمالحة) لتبلغ مساحتها 38 كم2.
بعد اندلاع حرب 1967 قامت دولة الاحتلال باحتلال شرقيْ القدس، وبتاريخ 28/6/1967 تمّ الإعلان عن توسيع حدود بلدية القدس وتوحيدها، وطبقاً للسياسة الصهيونيّة الهادفة إلى السيطرة على أكبر مساحة ممكنة من الأرض مع أقل عددٍ ممكن من السكان العرب.
لقد تم رسم حدود البلدية لتضمّ أراضى 28 قرية ومدينة عربية، وإخراج جميع التجمعات السكانية العربية، لتأخذ هذه الحدود وضعاً غريـباً، فمرةً مع خطوط التسوية (الطبوغرافي ) ومرة أخرى مع الشوارع، وهكذا بدأت حقبة أخرى من رسم حدود البلدية، لتتسع مساحة بلدية القدس من 6.5كم2 إلى 70.5 كم2 وتصبح مساحتها مجتمعة (القسم الشرقي والغربي 108.5 كم2)، وفي عام 1995 توسّعت مساحة القدس مرّةً أخرى باتجاه الغرب لتصبح مساحتها الآن 123كم2.
التعريف بالمقدّسات
يتفق علماء التاريخ البشري أنّه لم تحظَ مدينة قط بما حظيت به القدس من أهمية لدى شعوب الأرض قاطبة، فهي مهبط الوحي، وموطن إبراهيم خليل الرحمن، ومقر الأنبياء، ومبعث عيسى كلمة الله التي ألقاها إلى مريم, وهي أولى القبلتين، وثالث المساجد التي تشد إليها الرحال، استقبلها المسلمون في صلاتهم, وخصّها الله بإسراء رسوله وحبيبه المصطفى وحتى اليهود يزعمون بأنها تضم "معبدهم المقدس".
القدس في الديانة اليهودية
تضمّ القدس أكثر من خمسة عشر كنيساً ومعبداً جميعها إمّا أبنية مستأجرة، أو أبنية أنشئت خلال القرنين التاسع عشر والعشرين، ولكن أهمّ المقدسات اليهودية والتي يدّعي اليهود وجودها هو معبد سليمان المزعوم والذي له مكانة خاصة في العقل اليهودي فهو يقع في مركز العالم، فقد بُني في وسط القدس التي تقع في وسط العالم، وقدس الأقداس يقع في وسط المعبد، فهو بمثابة المركز، وأمام (قدس الأقداس) حجر الأساس (النقطة التي عندها خلق الإله العالم)، وهو يمثل الكنز لديهم، فالإله في تصورهم خلق العالم بيد واحدة بينما خلق المعبد بكلتا يديه، بل إنه خلق المعبد قبل العالم، وهم بهذا يرونه أهمّ ما في اليهودية. ومن الملاحظ أنّ اليهود يخضعون المعبد لكثير من الرموز المعاني الكونية العظيمة، فجاء معمار المعبد وتصميمه خاضعاً هو الآخر لتلك التفسيرات.. وقد شيده الملك سليمان (كما يزعمون) وأنفق ببذخ عظيم على بنائه وزخرفته.. حتى لقد احتاج في ذلك إلى أكثر من 180 ألف عامل. وقد أتى له بالذهب من ترشيش، وبالخشب من لبنان، وبالأحجار الكريمة من اليمن، ثم بعد سبع سنوات من العمل المتواصل تكامل بناء المعبد (سفر الملوك الأول, الثاني).
ما يدَّعى من أماكن مقدَّسة لليهود في فلسطين
حائط المبكى ( الا انه وقف اسلامي)
عدة كنس في الحي اليهودي داخل المدينة القديمة
الهيكل المزعوم ولم يومجد أي أثر له
القدس في الديانة المسيحية
تضم القدس أكثر من 47 أثراً من الكنائس والآثار المسيحية منها كنيسة القيامة (وفيها عدة كنائس) ودير أبينا إبراهيم والدير الكبير.
والقدس في الديانة المسيحية تحظى بمكانة خاصة، كيف لا وفيها -حسب معتقدهم- موقع صلب يسوع المسيح ودفنه وفيها طريق الآلام، كما أشير إلى مغارة في القدس على أنّها موضع الجحيم الذي نزل إليه يسوع بعد موته ليحرر الأنفس البشرية.
وتحتضن القدس دير مار إبراهيم للروم الأرثوذكس، وقد سمّي بهذا الاسم تيمناً بالتقليد المسيحي الذي يقول إنّ أبانا إبراهيم جاء إلى هذه الصخرة يقدّم ابنه إسحاق ذبيحة. ويوجد في الكنيسة مذبح وشجرة زيتون علق الجدي بفروعها. وتوجد بئر عظيمة تحت الدير، كما توجد إلى اليمين كنيسة مار يعقوب للأرمن وكنيسة القديس ميخائيل للأقباط. وإلى يسارها ثلاث كنائس مكرسة للقديس يعقوب والقديس يوحنا والشهداء الأربعين, والدرج الذي إلى اليمين قبل الدخول إلى الكنيسة يؤدي إلى معبد "سيدة الأوجاع" ويقال له أيضاً كنيسة الإفرنج، وهي للآباء الفرنسيسكان الذين يحتفلون فيها بالقداس الإلهي كلّ يوم، وتحت هذه الكنيسة تقوم كنيسة أخرى مكرّسة للقديسة مريم المصرية.
أما الجلجلة فتبدأ عند الدخول إلى كنيسة القيامة حيث نجد في اليمين سلماً يوصل إلى الجلجلة على ارتفاع خمسة أمتار عن أرض الكنيسة. وتنقسم إلى كنيستين صغيرتين. الأولى وتدعى كنيسة الصلب، تمّت فيها حسب معتقداتهم المرحلتين الحادية عشرة وهي (تثبيت يسوع بالمسامير على الصليب) والثانية عشرة (صلب يسوع). فوق الهيكل الذي في صدر الكنيسة، ويوجد كذلك حجر الطيب ملاصق لكنيسة الجلجلة يقابله حجر من الجير الأحمر مزين بالشمعدانات والمصابيح. هذا الحجر مقام لذكرى ما ورد في إنجيل يوحنا بعد موت المسيح.
وتضم القدس في جنباتها قبر الخلاص الذي يقوم في منتصف بناء تزينه الشمعدانات الضخمة. "وكان في الموضع الذي صلب فيه بستان، وفي البستان قبر جديد لم يكن قد وضع فيه أحد. وكان القبر قريباً فوضعوا فيه يسوع بسبب تهيئة السبت عند اليهود" حسب المعتقد المسيحي.
ينقسم البناء من الداخل إلى غرفتين، الغرفة الخارجية عبارة عن دهليز لإعداد الميت ويقال لها كنيسة الملاك. أما المدخل الصغير المغطّى بالرخام فهو الباب الحقيقي للقبر الأصلي والذي تمّ إغلاقه بحجرٍ إثر موت المسيح كما يقول الإنجيل. وفي وسط الدهليز نجد عموداً قصيراً يحمي تحت الزجاج قطعة أصلية من الحجر المستدير الذي سدّ باب القبر. ويوصل إلى القبر باب ضيق. فنجد إلى اليمين مقعداً من الرخام يغطي الصخرة الأصلية التي وضع عليها جسد يسوع من مساء الجمعة وحتّى صباح الفصح كما يعتقد المسيحيون.
وتحتضن المدينة المقدسة خورس الروم الأرثوذكس ويقع مقابل القبر المقدس ويحتل الجزء المركزي من البازيليك كلها. وكان في الماضي خورس الآباء القانونيين أيّام الصليبيين. وكذلك كنيسة الأقباط -تقع خلف القبر المقدس في مؤخرته حيث حفر فيه هيكل-، وتوجد كنيسة السريان الأرثوذكس- في آخر الرواق مقابل هيكل الأقباط- هنالك ممر ضيق بين العمودين يؤدي إلى قبر محفور في الصخر يعود إلى أيّام المسيح.
بعد هذا الاستعراض لأهمّ الأماكن المسيحية ذات الأهمية الدينية يتضح لنا أسباب تميز القدس بهذه المكانة المرموقة عند المسيحيين، فهي المكان الذي يحجّون إليه، وتهفو قلوبهم لزيارته والتبرك به. وقد كان للقدس مكانة عظيمة في نفوس المؤمنين من المسيحيين منذ عيسى -عليه الصلاة والسلام- ومن جاء بعده من حملة هموم دعوته.
أماكن مقدَّسة للنصارى في القدس
كنيسة القيامة
طريق الآلام التي تشتمل على المحطات التي تنقل عبرها الصليب
العلية المكان الذي تناول فيه المسيح ورفقاؤه العشاء الأخير
حديقة الجثمانية حيث قبض على المسيح
قبر العذراء المباركة
جبل الزيتون
حديقة القبر يعتبرها كثير من المسيحيين البروتستانت مكان قبر المسيح
العيزرية
بيت لحم وتوجد فيها كنيسة المهد ومغارة الحليب وحقل الرعاة
عين كارم مسقط رأس يوحنا المعمدان
عدة كنائس اثنان وثلاثون كنيسة لمختلف الطوائف
القدس في الإسلام:
تحتضن القدس أكثر من 197 أثراً إسلامياً, تتقسم بين المساجد والقباب والقصور والتكايا والزوايا والمدارس والأسبلة والأبواب... إلخ, وتعود إلى مختلف العصور الإسلامية.
قال: "أتيت بالبراق وهو دابة أبيض طويل فوق الحمار ودون البغل يجعل حافره عند منتهى طرفه"،ويُعَدّ من أهم الآثار الإسلامية في القدس المسجد الأقصى والذي هو أولى القبلتين وأحد المساجد الثلاثة الذي تشدُّ إليها رحال المسلمين. حيث ذكره الله -عز وجل- في القرآن الكريم، يقول تعالى: (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ). وفي الجدار الغربي للمسجد الأقصى يوجد مكان حائط البراق حيث ترجّل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حين وصل المسجد الأقصى. وفي هذا المكان المقدس موضع الحلقة التي ربط بها البراق الشريف. وقد روى مسلم في صحيحه عن أنس بن مالك أن رسول الله قال: "فركبته حتى أتيت بيت المقدس فربطته بالحلقة التي يربط بها الأنبياء -أي عند باب المسجد- ثم دخلت المسجد فصليت فيه ركعتين ثم خرجت فجاءني جبريل بإناء من خمر وإناء من لبن فاخترت اللبن فقال جبريل اخترت الفطرة".
ومن الآثار التاريخية المهمّة قبور الأنبياء والمرسلين وأضرحتهم. ففي بيت المقدس وما حوله توجد أضرحة ومقامات ومساجد تذكارية للكثير من الأنبياء والرسل الكرام. فعلى مقربة من الأقصى بمدينة القدس مسجد النبي داود عليه الصلاة والسلام، وهو مسجد كبير كانت تقام فيه الصلوات الخمس قبل وقوعه في يد المحتلين اليهود وسيطرتهم عليه. وشرقي القدس يوجد مقام النبيّ موسى عليه السلام، وعليه مسجد كبير، وحواليه أبنية وآثار إسلامية من بناء الملك الظاهر بيبرس ومن جاء بعده من ملوك المسلمين وسلاطينهم رحمهم الله.
وفي مقبرة "باب الرحمة" في بيت المقدس توجد قبور جماعةٍ من الصحابة الذين سكنوا القدس وماتوا فيها، ويُعرَف إلى هذا الزمان من قبورهم -رضي الله عنهم-: قبر "شداد بن أوس" الصحابي عالم بيت المقدس، وقبر"عبادة بن الصامت" أحد نقباء الأنصار وأول قاض مسلم في فلسطين، وهما بجانب السور الشرقي للمسجد الأقصى. وبالإضافة إلى القبور والأضرحة والمساجد فهناك المئات من الزوايا الصوفية والتكايا، فهناك: الخانقاه الصلاحية التي أنشأها صلاح الدين الأيوبي في القدس والخانقاه الداودارية والخانقاه الفخرية، وزاوية الشيخ بدر الدين الحسيني بظاهر القدس، وفي القدس وحدها أكثر من خمس عشرة زاوية مثل الزاوية الختنية والزاوية الجراحية والزاوية الكبكية، وتضمّ القدس أكثر من ثلاثين مدرسة من المدارس التاريخية الأثرية الإسلامية التي أنشأها ملوك المسلمين وسلاطينهم في مختلف العصور، وتخرّج منها طائفة من العلماء والصالحين مثل: المدرسة المأمونيّة، والمدرسة التنكزية، والمدرسة العمرية، والمدرسة الأشرفية, والمدرسة الطشتمرية. وفي القدس توجد مكتبات إسلامية تحتوي على نفائس الكتب الدينية واللغوية والتاريخية منها طائفة من المخطوطات الأثرية في علوم التفسير والحديث والفقه. إنَّ هذه الآثار يتبعها وقفٌ خُصِّصَ للكثير منها، وقفه المحسنون الصالحون من المسلمين. وقد وقفوا لها مئات العقارات، والأراضي الزراعية، مشترطين أنْ يصرف ريعها وناتج محصولاتها وأجرة عقاراتها في عمارة تلك المساجد والمعابد والمدارس والأربطة وفي مصالحها حسب شروط الواقفين. وتحتوي سجلات المحاكم الشرعية وبخاصة سجلات محاكم القدس وثائق تلك الوقفيات والقسم الأكبر من هذه أصبح تحت سيطرة اليهود وعبثهم. فتعطّل صرف ريعها في الوجه الشرعي الذي وُقِفَتْ عليه.
قائـمة بالمواقع الإسلامية الأثرية في القدس
المسجد الأقصى المبارك مسجد سويقة علون مسجد الشوربجي
مسجد عمر بن الخطاب مسجد عثمان بن عفان سرايا الست طنشق المظفرية
الخانقاة الصلاحية - مسجد أبي بكر الصديق تكية خاصكي سلطان
مسجد ولي الله محارب زاوية أحمد المثبت المدرسة البكرية
مسجد خان السلطان مسجد الحيات المدرسة الطازية
مسجد العمري الكبير مسجد قلاوون مكتبة الخالدي
مسجد العمري الصغير مسجد القميري (القميرية) مقام الست تركان خاتون
مسجد الديسي مقام السيوفي مقام بيرام جاويش
مسجد اليعقوبي مسجد علاء الدين البصيري مقام رابعة العدوية
مسجد الحريري مسجد المئذنة الحمراء مسجد سعد وسعيد
مسجد القلعة مسجد المولوية مقبرة باب الرحمة
مقام غياين مسجد مصعب بن عمير مقبرة مأمن الله (ماملا)
الزاوية الجراحية زاوية الهنود المقبرة اليوسفية
مسجد المنصوري (القلندري) الزاوية الكبكية مقبرة الساهرة
مسجد النبي داود الزاوية المهمازية المدرسة الطشتمرية
وقف ولي الله أبي مدين مسجد ومقام الشيخ مكي المدرسة التشتمرية
الزاوية الوفائية مسجد الشيخ لؤلؤ المدرسة العثمانية
الزاوية الظاهرية الزاوية النقشبندية طريق خان الزيت
الزاوية الأدهمية مسجد الشيخ ريحان سوق القطانين
الخانقاة الداودرية الزاوية الأفغانية سوق العطارين
الزاوية الختنية مسجد درغث سوق الدباغة
مسجد القرمي
إنّ القدس هي مدينة الديانات السماوية الثلاث وظلّت تتعامل مع الجميع على أساس قاعدة الاعتراف بالآخر، ومبدأ العيش المشترك، وهي الإطار الناظم للاجتماع البشري في القدس، حتى طرق باب فلسطين المشروع الصهيوني الذي اتّخذ موقفاً إقصائياً، لصالح تهويد القدس ليكرّر بذلك التجربة الصليبية، سيئة الذكر والمصير.
الحدود الجغرافية للمدينة عبر التاريخ
الموقع الفلكي:
تقع مدينة القدس على خط طول 35 درجة و13 دقيقة شرقاً، وخط عرض 31 درجة و 52 دقيقة شمالاً.
الموقع الجغرافي:
تميزت مدينة القدس بموقع جغرافي هام، بسبب موقعها على هضبة القدس وفوق القمم الجبلية التي تمثل السلسلة الوسطى للأراضي الفلسطينية، والتي بدورها تمثل خط تقسيم للمياه بين وادي الأردن شرقاً والبحر المتوسط غرباً، جعلت من اليسير عليها أنْ تتصل بجميع الجهات وهي حلقة في سلسلةٍ تمتدّ من الشمال إلى الجنوب فوق القمم الجبلية للمرتفعات الفلسطينية وترتبط بطرق رئيسية تخترق المرتفعات من أقصى الشمال إلى أقصى الجنوب، كما أنّ هناك طرقاً عرضية تقطع هذه الطرق الرئيسية لتربط وادي الأردن بالساحل الفلسطيني.
ويحيط بالمدينة من الجهة الشرقية وادي جهنم (قدرون)، ومن الجهة الجنوبية وادي الربانة (هنوم) ومن الجهة الغربية وادي (الزبل), وتبتعد القدس مسافة 22 كم عن البحر الميت وعن البحر المتوسط 52 كم، كما ترتبط بعواصم الدول المحيطة بطرق معبدة عن طريق البر، أما جواً, فتتصل بدول العالم عن طريق مطار قلنديا.
أهمية الموقع
ترجع أهمية الموقع الجغرافي إلى كونه نقطة مرور لكثير من الطرق التجارية، و مركزيته بالنسبة لفلسطين والعالم الخارجي معاً، حيث يجمع بين الانغلاق وما يعطيه من حماية طبيعية للمدينة، والانفتاح وما يعطيه من إمكان الاتصال بالمناطق والأقطار المجاورة الأمر الذي كان يقود إلى احتلال سائر فلسطين والمناطق المجاورة في حال سقوط القدس، إضافةً إلى تشكيله مركزاً إشعاعياً روحانياً باجتماع الديانات الثلاث، وهذا كلّه يؤكد الأهمية الدينية والعسكرية والتجارية والسياسية أيضاً،لأنها بموقعها المركزي الذي يسيطر على كثير من الطرق التجارية، ولأنها كذلك محكومة بالاتصال بالمناطق المجاورة.
النشأة الأولى
نشأة النواة الأولى لمدينة القدس كانت على (تل أوفيل) المطلّ على قرية سلوان التي كانت تمتلك عين ماء ساعدتها في توفير المياه للسكان، إلا أنها هُجِرت وانتقلت إلى مكانٍ آخر هو (جبل بزيتا) ومرتفع موريا الذي تقع عليه قبة الصخرة. وأحيطت هذه المنطقة بالأسوار التي ظلّتْ على حالها حتى بنى السلطان العثماني (سليمان القانوني) سنة1542م, السور الذي لا يزال قائماً، محدّداً لحدود القدس القديمة جغرافياً، بعد أنْ كان سورها يمتد شمالاً حتى وصل في مرحلة من المراحل إلى منطقة المسجد المعروف (مسجد سعد وسعيد).
وفي أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، لم تعُدْ مساحتها تستوعب الزيادة السكانية، فبدأ الامتداد العمراني خارج السور، وفي جميع الجهات ظهرت الأحياء الجديدة التي عُرِفت فيما بعد بالقدس الجديدة، إضافة إلى الضواحي المرتبطة بالمدينة التي كانت، وما زالت قرى تابعة لها، وقد اتخذ الامتداد العمراني اتجاهين أحدهما شمالي غربي, والآخر جنوبي.
ونتيجة لنشوء الضواحي الاستيطانية في المنطقة العربية، فقد جرى العمل على رسم الحدود البلدية بطريقة ترتبط بالوجود اليهودي، إذ امتدّ الخط من الجهة الغربية عدة كيلومترات، بينما اقتصر الامتداد من الجهتين الجنوبية والشرقية على بضع مئات من الأمتار، فتوقّف خط الحدود أمام مداخل القرى العربية المجاورة للمدينة، ومنها قرى عربية كبيرة خارج حدود البلدية (الطور، شعفاط، دير ياسين، لفتا، سلوان، العيسوية، عين كارم المالحة، بيت صفافا) مع أن هذه القرى تتاخم المدينة حتى تكاد تكون ضواحي من ضواحيها ثم جرى ترسيم الحدود البلدية في عام 1921.
ترسيم الحدود عام 1921:
حيث ضمت حدود البلدية القديمة قطاعاً عرضياً بعرض 400م على طول الجانب الشرقي لسور المدينة، بالإضافة إلى أحياء (باب الساهرة، ووادي الجوز والشيخ جراح) من الناحية الشمالية، ومن الناحية الجنوبية انتهى خط الحدود إلى سور المدينة فقط، أما الناحية الغربية والتي تعادل مساحتها أضعاف القسم الشرقي، فقد شملتها الحدود لاحتوائها تجمعات يهودية كبيرة، بالإضافة إلى بعض التجمـعات العربيـــة (القطمون، البقعة الفوقا والتحتا، الطالبية، الوعرية، الشيخ بدر، مأمن الله).
حدود عام 1946-1948:
أما المخطط الثاني لحدود البلدية فقد وضع عام 1946، وجرى بموجبه توسيع القسم الغربي عام 1931، وفي الجزء الشرقي أضيفت قرية سلوان من الناحية الجنوبية ووادي الجوز، وبلغت مساحة المخطط 20,199 دونماً، كان توزيعها على النحو التالي:
- أملاك عربية 40%.
- أملاك يهودية 26,12%.
- أملاك مسيحية 13,86%.
- أملاك حكومية وبلدية 2,9%.
- طرق سكك حديدية 17,12%، المجموع 100%.
وتوسعت المساحة المبنية من 4130 دونماً عام 1918 إلى 7230 دونماً عام 1948، وبين عامي (1947، 1949) جاءت فكرة التقسيم والتدويل، لأنّ فكرة تقسيم فلسطين وتدويل القدس لم تكنْ جديدة فقد طرحتها اللجنة الملكية بخصوص فلسطين (لجنة بيل)، حيث اقترحت اللجنة إبقاء القدس وبيت لحم إضافةً إلى اللد والرملة ويافا خارج حدود الدولتين (العربية واليهودية) مع وجود معابر حرة وآمنة، وجاء قرار التقسيم ليوصي مرة أخرى بتدويل القدس. وقد نصّ القرار على أنْ تكون القدس (منطقة منفصلة) تقع بين الدولتين (العربية واليهودية) وتخضع لنظام دولي خاص، وتُدار من قِبَل الأمم المتحدة بواسطة مجلس وصاية يقام لهذا الخصوص وحدّد القرار حدود القدس الخاضعة للتدويل بحيث شملت (عين كارم وموتا في الغرب وشعفاط في الشمال، وأبو ديس في الشرق، وبيت لحم في الجنوب)، لكن حرب عام 1948 وتصاعد المعارك الحربية التي أعقبت التقسيم أدّت إلى تقسيم المدينة إلى قسمين.
وبتاريخ 30/11/1948 وقّعت السلطات "الإسرائيلية" والأردنية على اتفاق وقف إطلاق النار بعد أنْ تم تعيين خط تقسيم القدس بين القسمين الشرقي والغربي للمدينة في 22/7/1948 وهكذا ومع نهاية عام 1948 كانت القدس قد تقسمت إلى قسمين وتوزعت حدودها نتيجة لخط وقف إطلاق النار إلى:
- مناطق فلسطينية تحت السيطرة الأردنية 2,220 دونماً 11,48%.
- مناطق فلسطينية محتلة (الغربية) 16,261 دونماً 84,13%.
- مناطق حرام ومناطق للأمم المتحدة 850 دونماً 4,40%.
المجموع: 19,331 دونماً 100%.
وهكذا، وبعد اتفاق الهدنة تأكّدت حقيقة اقتسام القدس بينهما انسجاماً مع موقفها السياسي المعارض لتدويل المدينة.
وبتاريخ 13/7/1951 جرت أول انتخابات لبلدية القدس العربية، وقد أولت البلدية اهتماماً خاصاً بتعيين وتوسيع حدودها البلدية، وذلك لاسيتعاب الزيادة السكانية واستفحال الضائقة السكانية وصودق على أول مخطط يبين حدود بلدية القدس (الشرقية) بتاريخ 1/4/1952، وقد ضمّتْ المناطق التالية إلى مناطق نفوذ البلدية (قرية سلوان، ورأس العامود، والصوانة وأرض السمار والجزء الجنوبي من قرية شعفاط), وأصبحت المساحة الواقعة تحت نفوذ البلدية 4,5كم2 في حين لم تزِدْ مساحة الجزء المبنيّ منها عن 3كم. وفي 12/2/1957 قرر مجلس البلدية توسيع حدود البلدية، نتيجة للقيود التي وضعها (كاندل) في منع البناء في سفوح جبل الزيتون، والسفوح الغربية والجنوبية لجبل المشارف (ماونت سكويس) بالإضافة إلى وجود مساحات كبيرة تعود للأديرة والكنائس، ووجود مشاكل أخرى مثل كون أغلبية الأرض مشاعاً ولم تجرِ عليها التسوية (الشيخ جراح وشعفاط)، وهكذا وفي جلسة لبلدية القدس بتاريخ 22/6/1958 ناقش المجلس مشروع توسيع حدود البلدية شمالاً حيث تشمل منطقة بعرض 500 م من كلا جانبي الشارع الرئيسي المؤدّي إلى رام الله ويمتدّ شمالاً حتى مطار قلنديا.
واستمرّت مناقشة موضوع توسيع حدود البلدية بما في ذلك وضع مخطط هيكل رئيسي للبلدية حتى عام 1959 دون نتيجة.
حدود عام 1967:
وفي عام 1964، وبعد انتخابات عام 1963 كانت هناك توصية بتوسيع حدود بلدية القدس لتصبح مساحتها 75كم, ولكن نشوب حرب عام 1967 أوقف المشروع، وبقيت حدودها كما كانت عليه في الخمسينات. أما القدس الغربية فقد توسعت باتجاه الغرب والجنوب الغربي وضمت إليها أحياء جديدة منها (كريات يوفيل وكريات مناحيم وعير نحانيم وقرى عين كارم وبيت صفافا ودير ياسين ولفتا والمالحة) لتبلغ مساحتها 38كم2.
أثر حرب حزيران على الحدود:
بعد اندلاع حرب 1967 قامت "إسرائيل" باحتلال شرقي القدس، وبتاريخ 28/6/1967 تمّ الإعلان عن توسيع حدود بلدية القدس وتوحيدها، وطبقاً للسياسة "الإسرائيلية" الهادفة إلى السيطرة على أكبر مساحة ممكنة من الأرض مع أقلّ عددٍ ممكن من السكان العرب.
لقد تمّ رسم حدود البلدية لتضمّ أراضى 28 قرية ومدينة عربية، و إخراج جميع التجمعات السكانية العربية، لتأخذ هذه الحدود وضعاً غريـباً، فمرّةً مــع خطوط التسوية (الطبوغرافية) ومرة أخرى مع الشوارع، وهكذا بدأت حقبة أخرى من رسم حدود البلدية، لتتسع مساحة بلدية القدس من 6,5كم2 إلى 70,5 كم2 وتصبح مساحتها مجتمعة (الشرقية والغربية 108,5 كم2) وفي عام 1995 توسعت مساحة القدس مرة أخرى باتجاه الغرب لتصبح مساحتها الآن 123كم2.
القدس وطنٌ في مدينة لا مدينة في وطن
لكن القدس في حقيقتها و"شخصيتها" التاريخية والدينية شيء آخر، فهي هوية المكان من حولها، والنقطة التي تنتشر منها البركة فتزداد أهميةُ ما حولها بها: (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ البَصِير) (سورة الإسراء: 1.)
وكما يقول مفكرنا الكبير المستشار طارق البشري: "ليست القدس مدينة في وطن هو فلسطين، ولكن فلسطين وطن في مدينة هي القدس... القدس لا يمكن أن تستحيل إلى أنها محض موقعٍ وعاصمة، فهي ليست برلين يمكن أن تحلّ محلها بون في الضمير الألماني، وهي ليست إستانبول يمكن أن تحلّ محلها أنقرة في الضمير التركي، ولكنها القدس بغير بديل".
وهناك اصطلاحات ومفاهيم ذات تعلق بالمدينة المباركة فيها بعض اللبس المحتاج إلى إيضاح وبيان؛ ولذلك أهميته في تعرف قضيتنا الأم، والذود والدفاع عنها.
الاحتلال وتمزيق الجسد القدسي
قبل الاحتلال البريطاني البغيض لفلسطين (سنة 1917م) لم تكنْ هناك سوى قدس واحدة، هي تلك التي تحيط بها أسوار سليمان القانوني التي بناها السلطان الكبير في منتصف القرن العاشر الهجري، إضافةً إلى مجموعة من الأحياء أقامها العثمانيون خارج سور القدس في الشمال والشرق والجنوب، مثل حي الشيخ جراح في الشرق، وحي المسعودية في الشمال...
وفي أثناء الاحتلال البريطاني تلاعب المندوبون الساميون بالحدود البلدية للمدينة المباركة، فركَّز رسمهم لحدود بلدية القدس على التوسّع جهة الغرب عدة كيلومترات؛ حيث الكثافة السكانية لليهود أعلى، أمّا في الجنوب والشرق حيث السكان عرب فلم يتجاوزْ الامتداد بضع مئات من الأمتار، فمُنِعت قرى عربية كبيرة من الدخول ضمن الحدود البلدية للقدس، وهي قرى: الطور، ودير ياسين، وسلوان، والعيسوية، والمالحة، وبيت صفافا، وشُعفاط، ولَفتا، وعين كارم.
هنا ظهرت القدس كمدن عدّة لا كمدينة مسلمة واحدة– كما هو المعتاد:
– فـ"القدس القديمة" أو العتيقة هي تلك الموجودة داخل سور سليمان القانوني، ومساحتها 8,71 دونماً (الدونم= 1000م2)، وطول السور 4,20كم2، وتقوم على أربعة جبال هي: جبل الموريا، وجبل صهيون، وجبل أكرا، وجبل بزيتا، ويوجد الحرم القدسي الشريف في الجنوب الشرقي للقدس القديمة فوق جبل الموريا.
– و"القدس الشرقية" هي القدس القديمة نفسها مضافاً إليها الأحياء التي زادها المسلمون خارج السور، مثل حي الشيخ جراح، وحي باب الساهرة، وحي وادي الجوز. وقد ظهر هذا المصطلح مع احتدام الصراع بين المسلمين واليهود في فلسطين قبل قيام الكيان الصهيوني، فقد تركّز العرب في شرق المدينة بأغلبية كبيرة، في حين تركّز اليهود بأغلبية ساحقة في غربها، فسُمِّي القسم الشرقي بـ"القدس الشرقية"، وأُطلق على الجانب الغربي اسم "القدس الغربية".
– و"القدس الغربية" هي القدس الجديدة التي نشأت في ظلّ الانتداب البريطاني على فلسطين؛ لتستوعب الهجرات اليهودية المتتالية، وقد اتسعت اتساعاً كبيراً، وضمّها البريطانيون إلى الحدود البلدية للقدس عام 1946م، فصارت مساحة القدس كلها 19000كم2؛ أي أكثر من عشرين ضعفاً من القدس العتيقة.
– و"القدس الموحدة" مصطلح يستعمله اليهود دلالةً على القدسيْن معاً (الشرقية والغربية)؛ لأنّ المدينة انقسمت عقب حرب سنة 1948م، فسيطَر الصهاينة على الجانب الغربي منها، واحتفظ الجيش الأردني بقيادة عبد الله التل -رحمه الله- بالجانب الشرقي، وحين سيطر اليهود على القدس كلّها يوم 7 يونيو سنة 1967م وحَّدوا المدينة وأصرّوا على فكرة "القدس الموحدة عاصمة أبدية لـ(إسرائيل)!!.
- و"القدس الكبرى" هي القدس الموسَّعة التي يحاول الصهاينة بها صنع هوية للمدينة تنمحي معها هويتها الإسلامية، فتبدو الأغلبية السكانية اليهودية كاسحة، وتصبح مساحة الأرض التي يسيطر عليها العرب صغيرة جدّاً بالنسبة لما يسيطر عليه اليهود.
ويستهدف مشروع القدس الكبرى تطويق الأحياء العربية في المدينة القديمة، وفصلها عن الأحياء العربية القائمة خارج السور؛ لإجبار العرب على معيشةٍ صعبة تذوب هويتهم معها، أو يضطرون إلى الهجرة من بيوتهم وأوطانهم.
على أية حال، فإنّ القدس بقديمها وجديدها وشرقها وغربها مدينة عربية إسلامية، فاليهود حينما وسَّعوها لم يأتوا بأرضٍ من عندهم، وإنما اقتطعوا من مناطق أخرى من فلسطين المحتلة، التي نزلوا بها ضيوفاً في زمن بعيد، وعاشوا أعزّة، ثم دار الزمن دورته، فعادوا يقولون: أورشليم هي بلدنا وبلد أجدادنا!!.
المسجد الأقصى نبض القدس الأسير
إضافةً إلى السور الذي يحيط بالقدس العتيقة هناك سورٌ تاريخيّ آخر في المدينة هو سور الحرم القدسي الواقع فوق جبل الموريا في الجنوب الشرقي للقدس العتيقة، ويبلغ طول الضلع الغربي للسور 490م، والشرقي 474م، والشمالي 321م، والجنوبي 283م. ولا يضمّ الحرم داخل أسواره بناءً واحداً فقط، بل عدداً كبيراً من الأبنية الإسلامية، أشهرها قبة الصخرة.
والمصطلح التاريخي "المسجد الأقصى" إذا أُطلِق مقصودًا به العموم (كما كان يفعل أسلافنا قبل القرون المتأخرة)، فهو كلّ هذا الحرم القدسي الواقع داخل السور. وحسب هذا المفهوم فإنّ مسجد قبة الصخرة جزءٌ من المسجد الأقصى، ومسجد عمر الذي بناه أمير المؤمنين عند فتح المدينة وجدّده عبد الملك بن مروان فيما بعد- هو أيضاً جزء من المسجد الأقصى.
وأهمية بيان هذه المسألة أنّها تحدّد البقعة التي يُضاعَف أجر الصلاة فيها، فيكون بخمسمائة صلاة فيما سواها، إلا المسجدين الحرام والنبوي، فالمضاعفة تشمل أرض الحرم كلها، وليست خاصة بمسجد عمر ومسجد قبة الصخرة.
غير أنّ البعض يطلق اسم "المسجد الأقصى" على مسجد قبة الصخرة ذي القبة الذهبية اللامعة، ويظن أُناسٌ أنّ هذا خطأ "فادح"، ومحاولةٌ لتزوير تاريخ المسلمين وآثارهم! وما هو بالخطأ الفادح ولا شيء، فالذي يجيز أنْ نطلق على مسجد عمر –وهو جزء من الحرم الأقصى- اسم "الأقصى"، ليس له أنْ يمانع في إطلاق هذا الاسم على مسجد قبة الصخرة -وهو الآخر جزء من الحرم- وإنْ كان الأولى والأفضل أن نحتفظ لكلّ موضع من هذه الثلاثة باسمه، حتى نعرف جيداً الأحكام الشرعية ذات العلاقة بالمسجد المبارك.
وأخيراً هناك في القدس مسجدٌ يُسمَّى "المسجد العمري"، يختلف تماماً عن مسجد عمر الموجود ضمن أرض الحرم، فالثاني بناه الخليفة الراشد عمر -رضي الله عنه- أوائل القرن الأول الهجري، وجدّده الأمويون والعباسيون ومَن بعدهم، وتبلغ مساحته الآن من الداخل أربعة آلاف وأربعمائة متر. وأمّا المسجد العمري، فقد بناه الأفضل بن صلاح الدين الأيوبي سنة 569هـ في الموضع الذي صلَّى فيه عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- حين رفض أنْ يصلّي داخل كنيسة القيامة.
المشهد الديمغرافيّ لمدينة القدس
في مدينة القدس، هناك محاولة بحث لا تعتمد المدونات، بل: الأرض، الطوبوغرافية والعلم والإحصاءات...
موقع القدس
قامت مدينة القدس في مكانها الحالي منذ الألف الثالث قبل الميلاد على أربعة جبال:
جبل موريا (المختار): ويقوم عليه الحرم الشريف.
جبل صهيون (النبي داود): بنيت عليه القدس اليبوسية.
جبل بيزيتا (بيت الزيتون): قرب باب الساهرة اليوم.
جبل أكرا: وتقوم على سفوحه كنيسة القيامة.
وتحيط بها مجموعة أخرى من الجبال امتدت إليها المدينة منذ مطلع هذا القرن، وأهمها جبل الزيتون في الشرق وسكوبس في الشمال والمكبر وأبو غنيم في الجنوب.
التشكيل الطوبوغرافي اليبوسي العربي للمدينة
تفرّدت منذ القديم بمزية أعطتها المهابة والقداسة، فإلى جانب انحدارٍ سحيق ينخفض حتى منسوب 450م تحت سطح البحر، باتجاه البحر الميت، ترتفع خطوط تسوياتها حتى منسوب 800م فوق سطح البحر.
أنشأها اليبوسيون العرب منذ خمسة آلاف عام، فمنحوها اسمهم ونسبة إلى إلههم سالم، سميت بأور سالم أي مدينة سالم. وطوع اليبوسيون طوبوغرافية مدينتهم العصية، باستخدام مصاطب متدرجة بنيت من أحجار ضخمة، استخدمت كمساحات مستقرة لبناء بيوتهم، ودعامات لأسوار المدينة. وعلى الرغم من انهيار هذه الدعامات فقد عثر الأركيولوحيون على أجزاء هامة منها.
ومما يدهش حقاً حفرهم لنفقٍ يمتد من نبع (جيحون) في منحدرات السطح الشرقي إلى بركة (سلوان) في السفح الغربي، وتحت مدينتهم بطول 510 أمتار. وبسبب الموقع المتوسط للمدينة والمنطقة باعتبارها معبراً تجارياً، تعرضت لأكثر من اجتياحٍ خلال تاريخها الطويل الأمر الذي يبدل من طوبوغرافيتها وتشكيلها الديمغرافي، ولكنها ما أسرع ما تعود إلى وجهها العربي الأصيل.
دحض التشكيل الطوبوغرافي اليهودي للقدس بحسب الادّعاءات التوراتية
تتحدث التوراة عن استيلاء داود على القدس اليبوسية، وامتدادها باتجاه الخطوط الطوبوغرافية العلوية للمدينة؛ لتعطيها اسم مدينة داود. وتزعم التوراة امتداد المدينة في عصر ابنه سليمان حتى قمة الجبل حيث تدّعي إقامة هيكله المزعوم. لكن التنقيبات الأثرية، التي قام بها علماء آثار، يهود ومستشرقون غربيون منذ أكثر من مائة عام، لم تشِرْ إلى وجود حقبة دولة، ولا إلى آثار لهيكل مزعوم، وما عثر عليه لا يزيد عن حجارة خشنة مغطاة بالطين، وبعض أساسات المصاطب المنهارة وهي تعود إلى العصر اليبوسي العربي.
تروي مصادر التاريخ الغربية ومعظمها يعتمد التوراة كمراجعة، تسلسلاً تاريخياً يبتدئ بالسبي البابلي وينتهي بتدمير مدينتهم ومعابدهم وتشتيتهم خلال فترة الحكم الروماني.
ما يعنينا في هذا البحث، ما يقدّمه علم الآثار ودراساته، حول التبدلات الطبوغرافية المكانية، للأحداث الجارية خلال هذه الحقبة. هناك إشارات وأدلة من خلال نصوص نينوى وبابل وكذلك النصوص المصرية، إلى تبديل ديمغرافي أساسي طرأ على مدينة القدس، حيث تدفقت على المدينة أعداد كبيرة من اليهود، إضافة إلى أقليات مصرية وفارسية ويونانية ورومانية، استوطنت التلال الغربية للمدينة، وعلى الرغم من ذلك فإنّ براهين عديدة تدل على بقاء اللغة الآرامية العربية سيدة الموقف في كامل المنطقة.
ومن هنا تعاملت الأبحاث الأركيولوجية مع الوضع الاستيطاني اليهودي في تلك الحقبة على أرضية أحداث شغب وفتن، لتصل إلى العصيات وتجاوزت ذلك، لتعطيه حدود الحكم الذاتي الذي منح للمدينة أحياناً ولم يعطِ هذا الاستيطان الوضع الحقوقي للدولة، كما نفت تلك الأبحاث وجود آية أدلة على تشكل طوبوغرافية يهودية للمدينة. وتبرز هنا إشكالية (هيرود) الكبير.
التشكيل الطوبوغرافي الهيرودي للقدس
عين الرومان هيرود حاكماً على اليهودية، فاتخذ من القدس عاصمة له، سنة 37 ق.م. وتتحدث المصادر التاريخية عن هويته: رومانيّ في انتمائه هيلينياً في أفكاره، يهوديّ في ظاهر ديانته، باعتبار أنّه يمتّ إلى الأدوميين سكان عسقلان الذين أُكرِهوا على الدخول في الدين اليهودي بحد السيف خلال الحقبة المكانية.
اعتمد هيرود إنشاء طوبوغرافية رومانية للمدينة شأنه في ذلك شأن الحكام والأباطرة في سائر أرجاء الإمبراطورية الرومانية. فالمعبد الضخم الذي أشاده على الموقع الذي تشغله حالياً ساحة الحرم الشريف، أقامه على دعامات ومصاطب حجرية هائلة حيث زادت ارتفاعات بعض الأساسات على ارتفاع 40 متراً وذلك من أجل تحمل الكميات الهائلة من الردميات من جهة، ولترويض عناصر الطوبوغرافية الطبيعية لمنحدرات الموقع من جهة أخرى. والمنصة المشادة من قبله، تقارب المنصة الحالية للحرم الشريف. لم يبق للمعبد أثر، فالأبحاث الأركيولوجية تشير إلى بقايا التأسيسات والتدعيمات للمنصة، في جانبيها الجنوبي والغربي..
بنى هيرود قلعة ضخمة شمالي معبده، وأجزاؤها السفلية ما تزال موجودة، مما يسمى اليوم ببرج داود، ويمكن أنْ يكون أحد الأبراج الثلاثة التي وصفها المؤرخ يوسفيوس. كما بنى قصراً في الجانب الغربي من المدينة إضافة إلى حمامات ومسرح. ويمكن تلمّس بعض آثار هذه المنشآت، وهي تشير إلى الطرازين اليوناني والروماني المألوفين، ولم يعثرْ على أية آثار تدل على خلفية يهودية.
لقد توسعت في هذا البحث لأهميته، حيث إنّ كلّ الادّعاءات اليهودية هي محاولة مصادرة الطوبوغرافية الهيرودية الرومانية، وإيهام العالم بأنها تعود إلى عهود سحيقة، عبر الصياغة التوراتية للتاريخ والطوبوغرافيا.
لم تعمر قدس هيرود طويلاً، فقد تسلل اليهود إلى معبدها بعد موت (هيرود) فصبغوا المعبد بصبغتهم، وانقضّوا على الحامية الرومانية فيها، وهذا ما استدعى قيام (تيطس) عام 70 ميلادية، إلى إخماد انقلاب اليهود. ولدى تكرر ذلك، هاجمهم (هادريان) عام 132 ميلادية فدمر المدينة بما في ذلك المعب، وشتّت يهودها، وأصدر مرسوماً بتحريمها عليهم. ثم أنشأ على أنقاضها مدينة جديدة أسماها (إيليا) نسبة إلى اسمه (إيليا هادريان)، تقارب حدودها حدود (المدينة القديمة) الحالية، مبقياً على المنصة الحالية للحرم الشريف، مشكّلاً تبديلاً طوبوغرافيا للمدينة إضافة للتبديل الديموغرافي الناشئ عن إقصاء اليهود عن المدينة.
إعادة التشكيل الطوبوغرافي العربي للقدس
في إشارات ودلالات قوية، انطلق السيد المسيح من الناصرة ماراً بجبل الزيتون، متّجهاً إلى قلب القدس وروحها، لتحقيق خلاصها من اليهودية، وخلال القرون الثلاثة التالية من عهد قسطنطين وحتى الفتح العربي الإسلامي كانت الطوبوغرافية المبينة للمدينة عبر أربع من أعلى نقاطها تحت إطلالة أربعة معالم مسيحية عربية بارزة..
وفي إشارات ودلالات قوية مماثلة، يتحقق الإسراء من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى لإعطاء المشهد تضمينات سياسة واضحة. وخلال خمسين عاماً، فقط، يتعاقب الخلفاء العظام لترسيم طبوغرافيا عربية للمدينة. ففي عام 637ميلادية، يدخل عمر القدس، موطّداً شراكه كاملة، محدّداً المنصة الهيرودية -حرماً شريفاً- تضم الصخرة والمسجد الأقصى.
وفي عام 661 ميلادية، يأخذ معاوية البيعة من زعماء المسلمين والمسيحيين على السواء على أرض الحرم الشريف. في سابقة هي الأولى من نوعها: اقتران القدس بمنح الشرعية للسلطة.
وما بين 692 ميلادية و702 ميلادية، يقوم عبد الملك بن مروان وابنه الوليد، بتوطيد التشكيل الطوبوغرافي العربي للمدينة على الأرض وبالحجر، بإعادة بناء المنصة المنشأة أساساتها من قبل هيرود الكبير، وقبة الصخرة والمسجد الأقصى، وبذلك يكتمل المشهد الساحر للمدينة الذي ينطق بحس تناسق التصميم والتوظيف المدهش للألوان..
وقد استمر هذا التشكيل الطوبوغرافي والديمغرافي للمدينة حتى عام 1099 ميلادية عندما اجتاحتها الحملة الصليبية؛ التي خاض فيها الصليبيون الفرنجة الدماء حتى الركب، في المسجد الأقصى، وتحت أقدامهم سبعون ألف جثة.. لقد أزالوا الشارات العربية: المسيحية والإسلامية عن المدينة وأعلنوا القدس عاصمة للملكة اللاتينية.
وخلال أيام معدودة، تبدلت ديمغرافية المدينة وامتلأت طرقاتها وأحياؤها بالمحاربين وقد قدِموا تحت أقنعة دينية كاذبة. فإذا هم خليط من تجار جنوة والبندقية ورهبان عسكريون وحشود من ميلشيات الداوية والإسبارتية ورعايا ملوك إنكلترا وفرنسا..
لم تطل الأمور، 88 عاماً فقط، يعود صلاح الدين محرّراً المدينة معيداً ما تهدّم من أسوارها وأبراجها وبواباتها، مدشّناً المدارس والزوايا والمستشفى الكبير، ثم يولي اهتمامه لإعادة ترميم وتزيين المسجد الأقصى وقبة الصخرة، لتستعيد القدس مشهدها الطوبوغرافي العربي الأصيل، إضافة إلى عودة سيادة العرب الديمغرافية على المدينة.
ويتابع سلاطين المماليك ما بدأه صلاح الدين، فيتألّق الطراز المعماري العربي الإسلامي على المنشآت المختلفة في المدينة، ولضيق المدينة على سكانها، فقد قاموا بردم الوادي الملاصق للجدار الغربي للحرم الشريف -حائط البراق- بإنشاء عقود ضخمة جرى ردمها من الأعلى، من أجل توسيع الأحياء المبنية بجوار الحرم الشريف... والنفق الذي أحدث انتفاضة 1996 هو الفراغ الذي تشغله من الأسفل هذه العقود..!
ثم يكمل السلطان سليمان القانوني، آخر مشهد للطبوغرافية العربية لمدينة القدس، بإعادة تشييد أسوار المدينة وعماراتها.. وقد بقيت أعمال هذا السلطان العظيم شاهدة على عروبة القدس حتى مطلع هذا القرن..
الطبوغرافية اليهودية للقدس "التهويد"
لم يسلم الغرب بخسارة معركة القدس أمام صلاح الدين، فمع صعود ظاهرة الاستعمار وتراجع الدولة العثمانية، بدأ يستعد للرجوع إلى الشرق، باستخدام جسور جديدة أهمها الاستيطان اليهودي لفلسطين.
تلقفت اليهودية العالمية هذه الإشارة، فتلاقت الأهداف فمصالحهما لا تتناقض، وكانت ولادة الصهيونية -الحركة السياسية ليهود العالم- من رحم الغرب ومصالحه.
ولأن السيطرة على القدس تضفي الشرعية على السلطة، كانت القدس مدخلاً للسيطرة على كامل المنطقة.. وعلى هذا الاعتبار، فقد تمكن الممول البريطاني اليهودي المشهور موسى مونتفيوري من الحصول على فرمان من السلطان العثماني عبد المجيد الأول عام 1855، لشراء أول قطعة أرض خارج سور المدينة القديمة لغرض إقامة مستشفى، تحوّلت إلى حي مونتفيوري -حجر الأساس للقدس الغربية. ولم تمضِ سنة 1892 حتى أصبحت الأحياء اليهودية غرب المدينة القديمة ثمانية أحياء، وأضحى اليهود يشكّلون ثلثيْ سكان مدينة القدس، وفي 11 كانون الأول 1917، أيْ بعد مرور أربعين يوماً على إصدار بريطانيا لوعد بلفور، دخل الجنرال اللبني مدينة القدس، وفي مقدّمة جيشه الفيلق اليهوديّ الذي تشكّل في مدينة الإسكندرية، إنها محاولة، بل مشروع لرسم طوبوغرافية جديدة للقدس كوطن قومي يهودي بحراسة الحراب البريطانية.
وعندما تشكّلت الإدارة المدنية البريطانية في القدس في الأول من تموز 1920 تسلم يهود بريطانيون الوظائف العامة، كما عهد لفنيين يهود مهندسين ومساحين بإدارة الأجهزة الفنية لتسهيل انتقال الأراضي للمؤسسات والشركات اليهودية. وتحت حماية السلطة المنتدبة ودعمها قامت هياكل سياسية لتكوين البنية المدينة للدولة اليهودية.
ومما يُحزِن أنّ العرب لم يكونوا يدركون أبعاد ما يجري، وأن المؤسسات العلمية اليهودية كالأليانس والتحتيون والجامعة العبرية كانت تسعى للتحضير لمجتمع يهودي يتسلّح بالعلم والتكنولوجيا، وإنتاج نوعيّ لا يعتمد عدد السكان وتوفر المواد الخام.
ففي افتتاح الجامعة العبرية في الأول من نيسان عام 1925 على جبل سكوبس، اشتركت الفعاليات الفلسطينية والعربية بامتياز في هذا الافتتاح. واستمر صعود المؤسسات اليهودية التي تتلقى الدعم من كل أنحاء العالم من الغرب والشرق، وأخذت الأراضي العربية بالتآكل ثانية بعد ثانية، والعرب يعيشون (عقلية بكرة) التي لا تتحدد بعملٍ ولا بزمن حتى عشية الخامس عشر من أيار 1948، وإذ بالدولة اليهودية تُعلَن، وتنتهي مسرحية الحرب الصورية، وتسقط القدس الغربية بكاملها في أيدي اليهود: ومساحتها 21310 دونمات، ويبقى للعرب في القدس الشرقية 2220 دونماً، أي 9% وضمنها القدس القديمة، وتبقى مساحة 850 دونماً منطقة للأمم المتحدة، مع إبقاء جبل سكوبس تحت السيادة "الإسرائيلية"، وتتوضع عليه الجامعة العبرية ومستشفى هداسا.
وهكذا تتحقق سيطرة الدولة اليهودية على 91% من طوبغرافية القدس وتعاني القدس نتائج النكبة الكبرى في 5 حزيران 1967.. إنه يوم أسود لا يُنْسى في تاريخ القدس.. في يوم الأربعاء الواقع في 7 حزيران 1967 انطلق قائد الفرقة المظلية مردخاي غور بسيارته نصف المجنزرة من أمام فندق كونتيننال في أعلى جبل الزيتون باتجاه الحرم الشريف؛ حيث وصله بعد سبع دقائق فقط، وبوصوله أرسل رسالته المشهورة: "THE TEMPLE MOUNT IS OURS" أي "جبل الهيكل لنا"، وتسقط مدينة القدس.. وتبدأ الدولة اليهودية باستكمال السيطرة على طوبوغرافية المدينة وإخلائها من سكانها العرب...
لجأت الدولة اليهودية إلى قصف المدينة خارج السور وداخله لثلاثة أيام متتالية على الرغم من انسحاب القوات الأردنية منها، وانعدام المقاومة فيها.. وقد تم تدمير آلاف الأبنية وتهجير سكانها بعشرات الآلاف.
لقد باشر اليهود أعمال الهدم والنسف، وسوّت الجرافات بالأرض حي المغاربة؛ ذلك الحي الذي بناه صلاح الدين للمرابطين المغاربة الذين قاتلوا لاستعادة القدس من الصليبين، وطالت أعمال التهديم حي (الشرف والسلسة) ومنازل كثيرة..
وبتاريخ 28/6/1967م أصدر الكنيست "الإسرائيلي" قانوناً وحّد المدينة تحت السيادة اليهودية بعد أنْ وسّع حدود المدينة من 38000 دونم إلى 106000 دونم، وذلك لتهويد ما تبقّى من المدينة إضافةً إلى ابتلاع القرى والضواحي العربية في محيط المدينة.
وفي إطار سياسة التهويد الداخلية نقلت الحكومة "الإسرائيلية" مقرها إلى الممتلكات العربية المصادرة في القدس الشرقية، وربطت شبكات المياه والكهرباء والهاتف بالشبكات المركزية اليهودية.
وفي إطار التبديل الطوبوغرافي للمدينة، بدأت الحكومة "الإسرائيلية" بنزع عروبة المعمار، أو الطراز المعماري العربي بهدم كلّ دلالة تشير إلى الثقافة والتاريخ العربي الإسلامي، فأزالت كافة الأحياء الملاصقة للحرم الشريف، وتشمل أبنية مساجد ومدارس، وبيوت أثرية.. وذلك من أجل التنقيب عن آثار لادعاءات مزعومة، وحولت مساحات واسعة إلى حدائق وممرات مشاة لتخديم المدينة اليهودية الموحدة.
وقد أوجدت الحكومة "الإسرائيلية"، وفق نظامها الخاص بها، الأسس التي تستند إليها في مصادرات واسعة النطاق تحت عنوان "التطوير في البناء المدني":
1. صادرت في الفترة الواقعة ما بين 1968 و1970؛ 15000 دونم أرض في القدس الشرقية لكي تقام فوقها أحياء سكن جديدة.
2. صادرت في الفترة الواقعة ما بين 1973 و1976؛ 90000 دونم أراضي في القرى المحيطة بالقدس من الشمال والشرق والجنوب. إضافةً إلى عشرة آلاف دونم في مناطق متفرقة.
3. صادرت عام 1980م حوالي 4000 دونم في القسم الشمالي على الطريق الرئيسية إلى رام الله، وقد مكّنتها المصادرات ومجموعها 119000 دونم لإقامة أربعة أحزمة استيطانية فوق المنطقة الموسعة لمدينة القدس..
الحزام الأول: ويتلخص اعتباره السياسي في تطويق قلب المدينة المكتظ بالسكان العرب، ببناء أحياء يهودية تؤدّي إلى فك ارتباط الأحياء فيما بينها، والسيطرة الاستراتيجية على المناطق المرتفعة فوق التلال إضافة إلى خلق أكثرية سكانية يهودية في المدينة. وقد جرى إشادة أربعة أحياء: رامات أشكول؛ جيفات هاميفتار؛ التلة الفرنسية؛ امتداد سانهدريا، ثم توسيعها إلى الشرق لتتصل بمباني الجامعة العبرية وإلى الغرب بإقامة حي نهلات دفنا، وراموت. وبذلك يقدّم هذا الحزام مجموعة مساكن لـ65000 مستوطن يهودي، مع مساكن لحوالي 14000 طالب في الجامعة العبرية. وقد قطع هذا الحزام كلّ اتصالٍ بمدينتيْ رام الله والبيرة، وحاصر قرى شعفاط وبيت حنينا..
الحزام الثاني: بطول ثلاثة كيلومترات من الواحدات السكنية المتصلة، وذلك إلى الجنوب من المدينة تل بيوت، وجوار بيت صفافا "جبلو" وباتصاله بالمستوطنات التي تجري إشادتها في محيط وعلى جبل أبي غنيم... يقدم هذا الحزام مساكن لـ120000 مستوطن يهودي. مع مجمعات سياحية وفنادق يصعب حصر مساحاتها.. مهمة هذا الحزام قطع الاتصال مع مدينتي بيت لحم والخليل ودمج قرية بيت صفافا بالقدس اليهودية.
الحزام الثالث: في أقصى شمال القدس الموسعة، ويضم منشآت ومباني ووحدات سكنية -مطار القدس الدولي- إضافة إلى المنطقة الصناعية "عتاروت".. والضاحية نيفي يعقوب وعناتوت وهي تخدم مركزياً كامل المدينة الموسعة للقدس.
الحزام الرابع: على بعد 14كم شرقي المدينة، ويشمل مستوطنات معاليه أدوميم (الخان الأحمر) لعزل المدينة عن المحيط الشرقي وقطع الاتصال عن مدينة أريحا.. وتتضمن مناطق الصناعة الثقيلة في "إسرائيل" كالصلب والحديد، والمباني الجاهزة والصناعات العسكرية..
القدس الكبرى:
وقد بدأت الدولة "الإسرائيلية" بالمصادرات في نطاق "القدس الكبرى" حيث ستتم عملية ابتلاع المدن العربية الممتدة في محيط مدينة القدس: رام الله والبيرة، وبيت جالا وبيت لحم وبيت ساحور مع ما مجموعه 60 قرية عربية في منطقة يعيش فيها اليوم حوالي 120000 عربي.
وفي الإطار الديمغرافي للمدينة تدلّ الإحصاءات الأخيرة على أنّ ما بقِيَ من عرب في مدينة القدس لا يتجاوز 200000 نسمة، منهم أربعون ألفاً في المدينة القديمة والباقي في القدس الشرقية 160000 نسمة و120000 نسمة في محيط وفناء مدينة القدس يقابلهم ما مجموعه ستمائة ألف نسمة من اليهود في نطاق القدس الموسعة الكبرى، وهذا ما تهدف إليه المخططات اليهودية.
وبعد، هل هو درس في التاريخ هذا الحديث أو من التاريخ!!.. منذ وضع (موسى مونتفيوري) حجر الأساس منذ 145 عاماً، لمشروع: الطوبوغرافية اليهودية لمدينة القدس، وكل يوم أرضٌ تضيع وكل يوم تتبدل الطوبوغرافية على الأرض..
وما 28 أيلول سنة 2000 ببعيد، يوم صعد شارون منصة الحرم الشريف يعلن رسم المشهد الأخير للطوبوغرافية اليهودية لمدينة القدس بتضمينات سياسية وعسكرية، فالقدس مقترنة دائماً بإضفاء الشرعية على السلطة...
الاستيطان اليهودي في القدس
إبان الانتداب البريطاني
تتناول هذه الورقة الاستيطان الصهيوني الذي تعرضت له مدينة القدس بشطريها الشرقي والغربي إبان فترة الاحتلال البريطاني لفلسطين، والدور الذي لعبته بريطانيا في تيسير أعمال التهويد وخاصة فيما يتعلق بالهجرة وحيازة الأراضي، وسياسة التنظيم البلدي التي رعتها بريطانيا والتي روعي فيها مصلحة واحتياجات الاستيطان اليهودي، كما تتناول الورقة الصراع بين الفلسطينيين واليهود للسيطرة على المجلس البلدي كجزء من السيطرة السياسية على المدينة، كما تتناول بالتحليل كيفية سقوط الشطر الغربي من المدينة تحت السيطرة الصهيونية بعد رفض المقترحات الدولية بتدويل المدينة.
بدأت عملية تهويد القدس في العهد البريطاني في أعقاب دخول الجنرال اللنبي، بقيام المهندس ماكلين، مهندس مدينة الإسكندرية بوضع الخطة الهيكلية الأولى لمدينة القدس، وكذلك المقاييس والمواصفات والقيود المتعلقة بالبناء والتطور. وبناء على الخطة الهيكلية التي وضعها كاندل عام 1918، فقد قسمت المدينة إلى أربعة مناطق: "البلدة القديمة وأسوارها، المناطق المحيطة بالبلدة القديمة، القدس الشرقية، والقدس الغربية". تلك المخططات التي اعتبرت العمود الفقري لكافة الخطط اللاحقة. ونصت الخطة على منع البناء منعا باتا في المناطق المحيطة بالبلدة القديمة، ووضعت قيوداً على البناء في "القدس الشرقية"، وأعلنت عن "القدس الغربية" كمنطقة تطوير. أما في عهد المندوب السامي الأول، هربرت صموئيل، اليهودي الصهيوني (1920ـ1925)، فقد أخذت القدس تشهد سمات التحول ومعالم التهويد الأولى البارزة.
ابتدأت معالم التهويد تظهر مع بناء المستعمرات الأولى على هضاب القدس (وهي ما أصبحت تدعى بالمستوطنات فيما بعد)، فكانت روميما عام 1921، المستعمرة الأولى، لحقت بها تل بيوت 1922، بيت هاكيرم 1923، وميخور حاييم وميخور باروخ، رحافيا، كريات موشيه، نحلات آحيم 1924، بيت واجن، محانايم، سنهادريا 1925، كريات شموئيل 1948، نحيلا، كيرم أفراهام 1929، ارنون، تل ارزه 1931، حتى أصبح عددها ست عشرة مستعمرة وضاحية وحياً عام 1948. ومنهم من يعدها اثنتي عشرة فقط، وفقا للمقاييس المتبعة حجما وأهمية، إلا أنه من الجدير بالذكر أن عدد الأحياء والمستعمرات اليهودية التي بنيت فقط في عهد المندوب السامي البريطاني هربرت صموئيل، بلغت إحدى عشرة ضاحية يهودية ما بين عامي 1921ـ 1925، وهذا يعنى أن معظم ما بني في عهد الانتداب، قد بني في عهد المندوب السامي الأول. كما شهدت تلك الفترة تدفق رؤوس الأموال اليهودية وخاصة مع المهاجرين الذين جاءوا من ألمانيا وبولونيا، واللذين كانوا في معظمهم من الطبقة المتوسطة، الذين باعوا أملاكهم وصفّوا أعمالهم وانتقلوا مع رؤوس أموالهم إلى فلسطين.
بحيث قدر أحدهم مجموع الأموال التي وظفها اليهود في فلسطين، خلال السنوات 1932ـ1935، بنحو 31 مليون ليرة فلسطينية، مقابل 20 مليونا تم توظيفها خلال السنوات 1921ـ1931. حسب تقدير ارلوزروف. (في الوقت الذي بلغت فيه ميزانية حكومة فلسطين السنوية حوالي 2 مليون جنية) هذا في الوقت الذي تدفقت فيه رؤوس الأموال الأميركية والغربية إلى فلسطين لاستثمارها في مشاريع إقامة "الوطن القومي اليهودي"، حصلت القدس منها على نصيب وافر. بحيث أخذ ينتقل إليها، أو يقام فيها تدريجيا، عدد كبير من المؤسسات الصهيونية واليهودية، لجعلها مركزاً سياسيا وإداريا وتعليميا. فأصبحت المدينة مقرا للجنة التنفيذية للمنظمة الصهيونية العالمية، والوكالة اليهودية، والصندوق التأسيسي، والصندوق القومي اليهودي، والمجلس الوطني لليشوف، والحاخامية الرئيسية. وفي سنة 1925 افتتح بلفور الجامعة العبرية في القدس، والتي وضع حجر الأساس لها وايزمن بحضور الجنرال اللنبي في 24 يوليو 1918، أي قبل انتهاء الحرب العالمية الأولى تماما ببضعة أشهر. أقيم عدد من هذه المؤسسات على هضبة جبل المشارف (سكوبس) في الجهة الشمالية الشرقية من المدينة القديمة، وهو موقع استراتيجي يسيطر على شمال المدينة ويشرف على القرى المجاورة، كما يشرف على وادي الأردن وجبال الأردن الغربية كما أنه الاتجاه الوحيد المتبقي أمام أي توسع للجزء العربي من المدينة ناحية الشمال، مما يشكّل حصاراً للمدينة، يتكامل مع أطواق الاستيطان اليهودي، من الجهة الغربية، والجنوبية الغربية.
ذلك أن توسع المدينة العمراني لم يسر بشكل متساوٍ في جميع الاتجاهات، حيث أن السلطات الانتدابية قامت بوضع مخططات تنظيمية عدة للمدينة وذلك في الأعوام 1919و1922و1929/1930و1946، راعت إلى حد كبير خارطة الاستيطان اليهودي في المدينة القائمة والمستقبلية، كما وقيدت إمكانات التوسع الفلسطيني، القائمة والمستقبلية.
يضاف إلى ذلك طبيعة الموقع المتفاوت طبوغرافيا، والذي تحكم في هذا التوسع، فمن جهة الغرب ـ التي طالها التوسع أكثر من بقية الأجزاء الشرقيةـ توفرت التربة الخصبة، والأمطار والمياه، والانحدار التدريجي باتجاه اللد والرملة، والسهول الساحلية. على نقيض المنحدرات الشرقية شديدة الانحدار، وفقيرة التربة. وقد أدى ذلك إلى أن تتوسع حدود البلدية عدة مرات. فقد وصلت مساحتها عام 1930 إلى17 ضعفا من مساحة البلدة القديمة. أو ما يقارب 4800 دونم، ارتفعت عام 1948 إلى 20131 دونم.
على أن ملكية اليهود في الجزء الغربي قبل عام 1948، لم تتعد في مجموعها 20%؛ والباقي مملوك لفلسطينيين مسيحيين ومسلمين وهيئات مسيحية دولية. كان هذا القطاع، ـ كما سبق الإشارة ـ يضم الأحياء السكنية الفلسطينية الأكثر ثراء، وكذلك أغلبية القطاع التجاري الفلسطيني. في حين كانت ملكية الأراضي اليهودية ما قبل سنة 1948 في "القدس الشرقية" الراهنة محدودة جداً. ففي داخل البلدة القديمة ضمت الحي "اليهودي" الذي لم تتجاوز مساحته 5 دونمات. وخارج البلدة القديمة، ضمت مستشفى هداسا ومجمع الجامعة العبرية على جبل المشارف (سكوبس)، وكلاهما لا يتجاوزان 100 دونم، ومستوطنتي عطروت ونفي يعقوف بمساحة 500 دونم و489 دونما على الترتيب.
ساهمت الظروف السياسية المريحة، إلى حد كبير، في تنفيذ المرحلة الثانية من المخطط الصهيوني لاحتلال القدس، الذي اتسم عموما بتعزيز الوجود اليهودي فيها وإحكام تطويقها استيطانيا لمنع أي توسع عربي محتمل، ومحاولة السيطرة على الحكم البلدي كخطوة نحو السيطرة على المدينة، وتحويلها إلى عاصمة للدولة اليهودية العتيدة. انعكس ذلك في ارتفاع معدل الهجرة إلى فلسطين بشكل كبير خلال فترة الانتداب، متأثرا بعوامل أخرى خارجية، منها صعود النازية إلى الحكم في ألمانيا سنة 1933، وكذلك الأزمة الاقتصادية التي وقعت سنة 1929، التي أثرت على دول عدة، ومن ضمنها بولونيا، ورومانيا، هذا إضافة إلى إدخال السلطات البريطانية تعديلا على قانون الهجرة، في 16 مارس 1932، خفضت بموجبه المبلغ المطلوب حيازته من المهاجرين من "صنف" أصحاب الأموال، للدخول إلى فلسطين من 1000 إلى 500 ليرة فلسطينية، هذا إضافة إلى منح صلاحيات واسعة للمندوب السامي بشأن تحديد قدرة فلسطين الاقتصادية على الاستيعاب، ومن ثم تعيين عدد المهاجرين اليهود الذين يمكنهم الدخول إليها.
قفز عدد المهجرين اليهود الذين وصلوا إلى فلسطين من 1806 مهاجراً سنة 1919 إلى 8223 سنة 1920 و 13.892 سنة 1924 و 34.386 سنة 1925 و 37.337 سنة 1933 و66.422 سنة 1935 و 22.098 سنة 1947. وقد ساهم ذلك في تعزيز الجالية اليهودية في القدس بشكل كبير، وقلب الميزان الديموغرافي على النحو التالي. كانت نسبة الذين استوطنوا القدس من هؤلاء على النحو التالي: 40.7% سنة 1922؛ 30.8% سنة 1930؛ 16.7% سنة 1946؛ و11.6% سنة 1948.
وفي حين شكل العرب من مسلمين ومسيحيين أغلبية في لواء القدس، كوحدة تشمل القرى والبلدات المحيطة بالمدينة،(بلغ عدد سكان ديار بيت المقدس 1945: 295.230 منهم142،829 مسلمون، 52.600 مسيحيون، 100.200 يهود أي نسبة 34% )، فقد استطاع اليهود سفارديم وأشكنازيم، أن يصبحوا أغلبية داخل الحدود البلدية (سنة 1947: 99.4 ألف يهودي في مقابل 65.1 ألف عربي، في حين بلغ عدد العرب في البلدة القديمة 33.600 ألف يملكون 85% واليهود 2400). وقد راجع المؤرخ البريطاني، مايكل دمبر الأدبيات الديموغرافية لفترة الانتداب، وتوصل إلى تفسيرين لهذا التمايز في نسب السكان:
الأول: اعتادت الإحصاءات الانتدابية احتساب المهاجرين الذين وصولوا إلى القدس قبل سنة 1946، ثم انتقلوا بعدها إلى تل أبيب ومناطق أخرى، كأنهم باقون في القدس
الثاني: استثنت تلك الإحصاءات سكان الأرياف المحيطة بالقدس، الذين يعملون في المدينة (مثل العاملين في المدينة من سكان قريتي لفتا ودير ياسين)، بينما احتسبت في الوقت ذاته السكان اليهود الذين يسكنون خارج البلدية على أنهم من سكان المدينة (مثل سكان بيت فيغان ورمات راحيل وميخور حاييم)، وهي عملية التفافية مشوهة يسميها دامبر"الاحصاء الديموغرافي الهيكلي" (Demography Gerrymandering). أي تقسيم منطقة إلى وحدات لمصلحة جماعة معينة.
وعلى الرغم من هذه التقديرات البريطانية، فإن العرب كانوا يملكون داخل حدود بلدية القدس عام 1947، ما مجموعه 11.191 دونم من أصل 19.326 (منها 3305 دونمات أراضي الدولة)، في حين يملك اليهود 4830، أي أن العرب كانوا يملكون ثلاثة أضعاف الأرض. (وفق إحصاءات 1945 فإن لواء القدس كان يغطي مساحة 1.57 مليون دونم، منها 88.4% كان يملكها عرب، و2.1% يملكها يهود، و9.5% أرض عامة).
أثارت الأرقام المتصاعدة للمهاجرين اليهود إلى فلسطين، والسياسة البريطانية التي تلخصت بتسهيل إقامة الوطن القومي اليهودي، مخاوف الشعب العربي الفلسطيني وقياداته في فلسطين. إذ تبين لهم أن هذه الهجرة ستجعل من العرب الفلسطينيين أقلية في بلادهم خلال فترة وجيزة. فقام الشعب الفلسطيني بعدد من الانتفاضات والثورات ضد سياسة الهجرة واستملاك الأراضي، والبنود التي تضمنها صك الانتداب عن "الوطن القومي اليهودي"، وكذلك القوانين والأوامر البريطانية بخصوص استملاك الأراضي، وكان من أبرزها ثورات وانتفاضات 1920، 1929، 1933و 1936ـ1939. وكانت القدس مركز هذه الثورات جميعا أو الشرارة التي انطلقت منها. ففي حين كانت ثورتا 1920 و1929 موجهتين في الأساس ضد المهاجرين وسياسة الهجرة، فإن ثورتي 1933 و1936-1939 تميزتا بالتعرض للاحتلال البريطاني للبلد أيضا. وكان السبب المباشر لثورتي 1920 و1929 النزاعات بين اليهود والمسلمين حول الأماكن المقدسة في القدس.
الصراع على مجلس بلدية القدس
إلى جانب الجهود الحثيثة في مجال الأراضي والهجرة والاستيطان في القدس، فتحت جبهة أخرى تركزت على بلدية القدس. التي اكتسبت طابعا سياسيا هاما في عهد الانتداب. وسعي اليهود للسيطرة التدريجية عليها وخاصة بعد التسهيلات التي أمنّها لهم البريطانيون منذ احتلالهم للمدينة.
لم تختلف الممارسات البريطانية تجاه القدس عن ممارساتها تجاه القضية الفلسطينية ككل، فقد تميزت في معظمها بتسهيل سيطرة اليهود على المدن الفلسطينية بشكل عام وعلى القدس بشكل خاص، ومن أجل تحقيق ذلك تلاعبت الإدارة البريطانية بحدود المسطح البلدي فيها، وبقوائم الناخبين بحيث كانت تستثني الأحياء العربية منها، مثل (الطور، سلوان، العيسوية ، شعفاط وبيت صفافا العربية)، بينما كانت الأحياء اليهودية مهما بعدت تدخل في مسطح البلدية. أقدمت السلطات البريطانية في بداية عهد الإدارة العسكرية لفلسطين (أواخر 1917 وحتى 1920)، على حل المجلس البلدي للقدس، وتعيين لجنة لإدارة البلدية، أسندت رئاستها لعضو مسلم، ينوب عنه عضوان من الطائفتين المسيحية واليهودية.
ومع تطبيق الإدارة المدنية عام 1920، أعيد تشكيل اللجنة، وحل محلها مجلس استشاري لإدارة البلدية يتكون من عشرة ضباط بريطانيين رسميين، وعشرة أعضاء غير رسميين، يعينهم المندوب السامي: أربعة من المسلمين، وثلاثة مسيحيين وثلاثة يهود. وفي نيسان وضعت السلطات البريطانية قانون الانتخابات في العام 1926، أتاح، خلافاً للقانون العثماني، حق الانتخاب لدافعي الضرائب حتى وإن لم يكونوا من أصحاب الأملاك بل مستأجرين فقط، كما نص هذا القانون على أن الناخب يجب أن يكون مواطنا فلسطينياً بدلاً من "مواطن عثماني". تكوّن المجلس البلدي بعد عام 1927، من اثني عشر عضوا نصفهم من العرب (أربعة مسلمين ومسيحيان وستا من اليهود)، وكان ذلك نتيجة للتعديل على قانون الانتخابات، والذي فتح الباب واسعا أمام المهاجرين اليهود ليدخلوا تلك الانتخابات.
بقيت رئاسة البلدية في يد مسلم، هو حسين الخالدي، وتم تعيين موشيه شرتوك اليهودي نائبا أول لرئيس البلدية بناء على اتفاق مع المندوب السامي. ثم بدأت محاولات اليهود للمطالبة برئاسة البلدية، وبعد فشل الاقتراح الذي تقدمت به السلطات البريطانية إتباع نظام التناوب على رئاسة بلدية القدس، بسبب معارضته فلسطينياً، تم إبعاد رئيس البلدية حسين الخالدي ونفيه إلى جزر سيشيل في المحيط الهندي، لكونه عضواً في اللجنة العربية العليا, قام الإنجليز بحل المجلس في 11 تموز 1945، وتعيين لجنة بلدية من ستة موظفين بريطانيين. وبقى الأمر كذلك حتى نهاية فترة الانتداب البريطاني على فلسطين في أيار 1948.
قرار الأمم المتحدة بتقسيم فلسطين:
صادقت الجمعية العامة، في دورتها الخاصة، بقرارها رقم 181 (الدورة الثانية)، الصادر في 29 نوفمبر 1947، والمعروف بقرار التقسيم، على توصيات اللجنة (تقرير فريق الأكثرية) بعد إدخال تعديلات بسيطة عليها. حيث أوصي بدولة يهودية وأخرى فلسطينية، وكذلك نظام خاص بالقدس ـ في جزء منفصل لا يقع في أي من الدولتين المقترحتين، اليهودية أو الفلسطينية ـ تحت وصاية الأمم المتحدة. وضم هذا "الجزء المنفصل" ، مدينة القدس كلها في حدودها البلدية تحت الانتداب. وأضيف إلى هذه المنطقة نحو 20 قرية عربية .
وكان عدد سكان هذا "الجزء المنفصل" أقل قليلا من 100.000 يهودي، ونحو 105.000 عرب. وقد رفضت اللجنة العربية العليا للفلسطينيين هذا القرار، كما رفضته الدول العربية، على أساس أن الأمم المتحدة قد تخطت صلاحياتها في هذا الشأن. أما المنظمة الصهيونية، التي كانت تصر على إقامة دولة يهودية على كامل الأراضي الفلسطينية وجعل القدس عاصمة هذه الدولة، فقد قبلت به بتردد، وما لا تذكره المصادر، أن المعسكر الصهيوني التنقيحي ومنظمتيه، الأرغون وجماعة شتيرن (اللتين ينحدر الليكود منهما مباشرة) لم يقبلوا التقسيم. وفي الوقت نفسه، فإن القبول اللفظي بالتقسيم من قبل القيادة اليهودية الرسمية لم يعن القبول بـ"الجزء المنفصل" للقدس الذي كان جزءاً عضوياً من خطة الأمم المتحدة للتقسيم.
وكما تشهد الخطة دالت، التي وضعتها الهاغاناه. فإن القيادة اليهودية كانت مصممة على ربط الدولة المتصورة بالقدس في "الجزء المنفصل". إلا أنه لما كان "الجزء المنفصل" يقع عميقا داخل الأراضي العربية، في وسط الدولة الفلسطينية المتصورة، فإن إنجاز ربطه لم يكن ممكنا إلا عسكريا.
ومبكراً منذ إبريل 1948 ـ قبل نهاية الانتداب البريطاني وقبل دخول الجيوش العربية النظامية ـ قامت القوات اليهودية بهجومين عسكريين رئيسيين من أجل احتلال القدس: أحدهما من تل أبيب في اتجاه القدس عبر الأراضي التي خصصها قرار التقسيم للدولة الفلسطينية، والآخر من الحي اليهودي داخل المدينة ذاتها. وفي مسار الهجوم الثاني، سقط كل ما يشكل اليوم "القدس الغربية" في يد الهاغاناه، وارتكبت المجزرة في دير ياسين على أيدي مجموعتي الإرغون وشتيرن، اللتين قادهما رئيسا الحكومة السابقان مناحيم بيغن ويتسحاق شامير، على التوالي.
وحتى قبل النهاية المحددة للانتداب في 15 مايو 1948، فإن هدف الهاغاناه لم يكن احتلال كل منطقة القدس البلدية ـ الجزء الغربي ـ فحسب، بل أيضا احتلال المنطقة الأكبر، أي "الجزء المنفصل" ذاته بكامله. ولم يحبط إلا في اللحظة الأخيرة عبر المقاومة الفلسطينية وتدخل الجيش الأردني، وبذلك فإن السيطرة اليهودية الراهنة على "القدس الغربية" وما يسمى "الممر" الذي يصلها بالساحل تحققت عبر الاحتلال العسكري خرقا لقرار التقسيم. الذي ولّّد الدولة اليهودية نفسها. لذلك فإن الأمم المتحدة لم تعترف بالسيادة "الإسرائيلية" على "القدس الغربية" لا تصريحاً ولا تعريضاً، وإنما عارضتها ونددت بها أيضا. وكذلك فإن المجتمع الدولي، بما فيه الولايات المتحدة، لم يعترف قط إلى الآن، بصورة واضحة، بالسيادة "الإسرائيلية" على القدس بما فيها "القدس الغربية".
بانقضاء العام 1948، تمكنت "إسرائيل" من إعلان الدولة التي ترسخت أصولها على مدار عمر الانتداب البريطاني، كما تمكنت "إسرائيل" من السيطرة على الجزء الغربي من مدينة القدس، تلك المحاولة التي بدأت قبل أن تنسحب القوات البريطانية من فلسطين 14مايو 1948، لتبدأ مرحلة جديدة في تاريخ فلسطين والقدس، بما حملته تلك المرحلة من تغييرات عميقة في الخارطة السياسية. ألقت بظلالها ثقيلة على الصراع في المنطقة، على مدار النصف الثاني من القرن العشرين.
كما شهدت المرحلة الأولى لسقوط مدينة القدس 1948، البدايات الأولى لجملة من القضايا المتعلقة بالقدس ـ والتي مازالت معلقة ـ يأتي في مقدمتها، تهجير السكان الفلسطينيين من القدس، والسيطرة على أراضيهم وقراهم، ونقل ملكيتها إلى مؤسسات الاستيطان اليهودي.
0 التعليقات: